من سوء حظ واشنطن أنها وفى الوقت الذى بدت فيه وكأنّها قد تفرّغت تماماً للسودان عقب إنفصال جنوبه، إلاّ أنها جابهت متغيِّراً سياسياً إقليمياً حتى وإن كان ضمن حساباتها، إلاّ أنه مُربك وليس من السهل القفز فوقه. بمعني أوضح فإنّ اليد الأمريكية لم تعد (طليقة) فى الوقت الراهن وربما لخمس سنوات قادمة على الاقل للخوض فى الشأن السوداني بما يحلو لها، فالربيع العربي الذى إجتاح المنطقة العربية والافريقية -منطقة الشرق الاوسط تحديداً- جاء بغير ما تشتهي تماماً ولكنها كانت ولا تزال مضطرة للقبول بما أفضي إليه، إذ يصعب فى ظل هذا المتغيّر الهام السباحة عكس تيار النهر فى المنطقة وهى صعوبة تصل الى درجة الإستحالة فى الواقع كأمر مسلم به فى حركة الهواء السياسي والرياح الفكرية ذات البُعد الشعبي. كان فى مخيّلة واشنطن وإلى وقت قريب أن المجال قد إنفسح لها لخلق منطقة تدين لها بالكامل فى السودانَيين، وأغلب الظن أنها كانت تدفع بالرؤي السياسية الجنوبية ممثلة فى طموحات الحركة الشعبية الحاكمة فى دولة جنوب السودان، إلى السودان كلّه، وهو ما جعلها تسعي لخلخلة البنيان الأمني والسياسي فى جنوب كردفان والنيل الأزرق وتحاول إعادة إنتاج أزمة الجنوب من جديد ولكن برؤية مختلفة. وبالطبع وحتى هذه اللحظة تأمل واشنطن فى إيجاد موطئ قدم لما تبقي من الحركة الشعبية (قطاع الشمال) فى الفعل السياسي السوداني بحيث يكون له مقعداً متقدماً حتى يتكامل ويتناغم مع ما يجري فى دولة جنوب السودان . وقد رأينا كيف حشرت رايس فى القرار 2046 قطاع الشمال وضرورة التفاوض معه، ورأينا كيف أشرفت على قيام ما يسمي بالجبهة الثورية من على البُعد وعبر كلاء محليين فى جوبا وكمبالا ووكلاء دوليين مثل باريس وتل أبيب. لقد حاولت واشنطن الضغط على الخرطوم عبر مسارين قلَّ أن ينجح نظام حكم فى الإفلات من آثارهما. مسار يتصل بالمفاوضات فى أديس أبابا وما يكتنفه من مشاق وعقبات تنتهي بتهديدات من مجلس الأمن، وهو أمر مثير للقلق دون شك إذا كنا ننظر الى السودان كمهبط راسخ للعقوبات والاجراءات الدولية ؛ ومسار آخر يتصل بالتحرُّك على الأرض فى جنوب كردفان والنيل الازرق مغلفاً بدواعي القضايا الانسانية. ولهذا فإن قضية التفاوض مع قطاع الشمال غلّفتها واشنطن بعناية بالدواعي الانسانية وقضايا النزوح واللجوء وإيصال المساعدات الإغاثية، مع أنها تهدف إلى إتاحة الفرصة لقطاع الشمال ليصبح ضمن ميدان اللعب السياسي ويحقِّق لجوبا (وجود إضافي) فى الساحة السياسية السودانية. كل هذا الحراك الأمريكي يواجه الآن مصاعباًَ جمّة جرّاء المتغيرات السياسية فى المنطقة، فالتناغم السياسي الذى ما يزال فى بداياته بين القاهرةوالخرطوم يعيق أىِّ جهد أمريكي لتنفيذ هذه الخطط الصعبة بطبيعتها. وربما كانت القاهرة – بعد مبارك – تدرك أن العبث بالأمن القومي السوداني مهما كنت درجة بعده منها هو فى النهاية عبث بأمنها القومي بإعتبار أن السودان عمقها الاستراتيجي الذى لا بديل له. وربما لهذا السبب -على بساطته- تتجه واشنطن لخفض حمولتها السياسية فى المركب المتجه بها نحو الخرطوم؛ فالقوى العظمي -لسوء الحظ- تتأثر أكثر بأقل جنادِل سياسية مُعِيقة للملاحة نظراً لضخامة مراكبها وضخامة خطوط سيرها وطولها وضخامة حمولتها السياسية!