بكل المقاييس والحسابات السياسية بدأ البساط ينسحب تدريجياً من ما يسمي بقطاع الشمال المتمثل فى عقار وعرمان والحلو عقب بداية حلحلة القضايا الخلافية بين دولتيّ السودان وجنوب السودان. ويمكن القول هنا - فقط لمجرد التذكير وأخذ العظات والعبر - أن قطاع الشمال فى الواقع لا يمثل بالنسبة للحركة الشعبية الحاكمة فى دولة جنوب السودان سوي ورقة سياسية هى الآن نزلت على المائدة ولم يعد من الممكن استخدامها أكثر من ذلك! وإذا أردنا إجراء مقايسة سياسية فى هذا الصدد فإن ذات هذا القطاع كان ضحية للحركة الشعبية طوال سنوات الإنتقال الست حين كانت الحركة شريكاً فى العملية السياسية وقبل إنفصال دولة جنوب السودان، فقد عملت على تجميد هياكلها حين وقعت فيه خلافات وظهرت أصوت تستهجن إتجاه الحركة الشعبة حينها نحو الإنفصال وتمزّق القطاع وقتها وتشرذم لدرجة ان خلافاته إنتقلت الى أقسام البوليس ومحاضر الشرطة! وكانت إحدي أكبر تجلِّيات عبث الحركة بالقطاع، القرار الذي إتخذه الرئيس كير قبالة الاستحقاق الانتخابي فى أبريل 2010 حين أجبر عرمان المرشح الرئاسي حينها على سحب ترشيحه بصورة كان واضحاً أنها كانت تعبر عن مصالح الحركة الشعبية وحدها وأن القطاع لم يكن سوي ورقة لعبت بها. الآن يمكن النظر إجمالاً الى المشهد العام للصورة؛ إن الحكومة الجنوبية جمعت كل أوراق القطاع وإستخدمته فى عمل أمني ليس لإفساح المجال أمامه ليكون شيئاً مذكوراً فى الساحة السياسية السودانية، ولكن بهدف المناورة به فى سياق النزاع القائم بين الخرطوموجوبا. ولهذا فإن قبول جوبا سواء بضغط أمريكي – كما ثبت من زيارة الوزيرة كلينتون لجوبا – أو لأسباب خاصة تخصها بالاتفاق النفطيّ المرتبط إرتباطاً وثيقاً بالملفات الأخري وأهمّها الملف الأمني والحدوديّ معناه أن جوبا فى الواقع شرعت فى تمزيق فاتورة قطاع الشمال على مائدة أديس أبابا حتى ولو كان هذا التمزيق مبنياً على تصوّر وجود مفاوضات بين القطاع والخرطوم، فعلي أية حال خرجت جوبا من موضوع القطاع، وتركته ليواجه مصيره وفق ما تتيحه له ظروفه السياسية. ولهذا فإن أول وأكثر المتضرِّرين من الاتفاق بين جوباوالخرطوم هو قطاع الشمال حتى ولو لم يظهر للعيان بصفة واضحة أنه راح ضحية مناورات جوبا التى لا تتردّد فى التخلي عن حمولتها الزائدة فى أول إختبار لها. من الجانب الثاني فإن هذه النتيجة تفرز لنا نتيجة أخري لا تقل أهمية عن الأولي وهى أن القطاع يستمد وجوده من عدمه؛ فقط إستناداً على مقدار القيمة التى تمنحها له جوبا، فهو لا يملك قيمة خاصة ذاتية تتيح له اللعب بمفرده أو إدعاء تمثيله لمهمَّشين أو لعب دور مؤثر فى الساحة السياسية السودانية. المتضرر الثاني بالضرورة من الاتفاق هم قادة الحركات الدارفورية المسلحة الذين وضعوا مجمل بيضهم فى السلّة الجنوبية إذ أن جوبا – كما ثبت عشرات المرّات – غير معنية بأحد، هى فقط معنية بمصالحها وحتى فى هذا الجانب فهي محكومة فى الواقع بمصالح دول عظمي أخري مثل الولاياتالمتحدة، والولاياتالمتحدة سياستها تجري كما هو معروف وفقاً لمصالحها التى لا تستشير فيها أحداً مهما كنت درجة قربها منه ومهما كان وفياً ومخلصاً لها. ولهذا فإن الحركات الدارفورية المسلحة بات عليها - رغم أن البعض قد يري أن الوقت ما يزال مبكراً على ذلك - أن تبدأ بحزم أمتعتها، فهي مفارقة لا محالة لجوبا وإن إستطال بها المقام لأشهُر وأسابيع . وعلى ذلك فإن من المنتظر أن تشهد الأيام القليلة المقبلة تحولاً دارماتيكياً فى الأوضاع بين جوباوالخرطوم هو فى حقيقته تصحيح حتمي لمجريات التاريخ وأحكامه التى لا محيد عنها مهما بدت الأمور لسبب أو لآخر غير ذلك!