حاز السودانان مهلة جديدة من مجلس الأمن، كما حاز آخرون على مبتغاهم، من كعكة “أديس أبابا" حيث تجري مفاوضات ماراثونية بين البلدين الجارين . . الاتحاد الإفريقي الوسيط الرسمي للمفاوضات، لم يرض أن تخرج الأمور من يده، فأنجز بعجالة اتفاقاً حول النفط، لحفظ ماء وجهه، والرئيس الجنوب إفريقي السابق، ثامبو امبيكي، الذي تقطعت أنفاسه، بين الخرطوموجوبا، لم يرض هو الآخر الا ختاما مسكا لمسيرته الإفريقية، ففعل كل شيء، ليصل الطرفان إلى اتفاق، يحمل مسعاه، ويضمنه تقريره لمجلس الامن، وحتى الرئيس الأمريكي باراك أوباما، لم ينس أن يكسب من كعكة السودانين، زخماً يسنده في انتخاباته المقبلة، حتى لا يشار إلى فشله في دفع الطرفين إلى تسوية، فدفع بوزيرة خارجيته، هيلاري كلينتون، وهي تحمل عصا إلى جوبا، ومثلها بالهاتف إلى الخرطوم، بعدما لم تصلح الجزرة طوال الفترة الماضية . مجلس الامن نفسه، رأى أن مهلة أخرى، لا تضيره في شيء، ربما منحته فضيلة الحلم عند الغضب، وإرضاء رفيقه الإفريقي ليخرج كل ما في جعبته، وينال نصيباً من الكعكة والإشادة الدولية بجهوده، على اتفاق لم تتضح معالمه بعد، لكنه يمد الحبل على الغارب أشهراً أخرى، ويبعد جميع اللاعبين في أديس أبابا من حرج “المهلة" التي انقضت، ولم يحرز الطرفان أي تقدم محسوس، وتبقى الأمور على ماهي عليه منذ يوليو/تموز من العام الماضي، أي بعد خمسة أشهر من انفصال الجنوب عن الشمال، والتي بلغت تداعياتها الذروة في ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه، عندما تعطلت آبار النفط الجنوبية بقرار عدم تصدير الإنتاج عبر أراضي الشمال . ويبقى السؤال مشرعاً ومشروعاً، على ماذا اتفق الطرفان، من بين جميع القضايا المعلقة بينهما، أية اختراقات أو إيجابيات أحرزت خلال فترة التفاوض التي امتدت لشهور، أين موقع القضايا الأمنية والحدود والمناطق المتنازع عليها، وعلى رأسها أبيي، كأبرز أجندة الأزمة، من الاتفاق، بعدما كانت على رأس شروط التفاوض، لتتراجع إلى مرحلة مقبلة، ويتقدم الاتفاق النفطي عليها، وهو اتفاق حسب مراقبين، رغم أنه قد يفتح الباب أمام حل المسائل الأخرى العالقة بين البلدين، سيحتاج إلى شهور عدة لتنفيذه، ومن ثم الاستفادة من عائده . موقف واشنطن اتفق السودانان، حسبما أعلنت لجنة التنفيذ العالية المستوى للاتحاد الإفريقي والتي يقودها رئيس جنوب إفريقيا السابق ثابو امبيكي، “على استئناف مرور صادرات النفط الجنوبية عبر الأراضي السودانية"، وما لم يقله امبيكي هو موعد هذا الاستئناف، ويبدو أن الجميع في غمرة زخم الاتفاق، لم يلحوا على معرفة الموعد الذي أخفاه امبيكي أسوة بطرفي الاتفاق . كما بدا بيان الإشادة الأمريكي بالاتفاق جاهزاً، حيث يجزم المراقبون على أن الاتفاق جاء نتيجة لذلك الاختراق الأمريكي، وتشي عبارات البيان الممهور باسم الرئيس باراك أوباما، بفرحة عارمة وسط الإدارة الأمريكية، التي رحبت بالاتفاق وقالت إنه “يفتح الباب أمام مستقبل أكثر ازدهاراً لشعبي البلدين، وإن زعيمي السودان وجنوب السودان يستحقان التهنئة للتوصل إلى هذه الاتفاقية وإيجاد تسوية في مثل هذه القضية المهمة، كما أشاد بجهود المجتمع الدولي الموحدة لتشجيع ودعم الجانبين للتوصل إلى حل . “ولم يغفل أوباما الإشادة “بشكل خاص" بلجنة التنفيذ عالية المستوى للاتحاد الإفريقي والتي يقودها رئيس جنوب إفريقيا السابق ثابو امبيكي، “لقيادتها الحازمة والماهرة للتوصل إلى هذه الاتفاقية" . وكانت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون اصدرت بيانا بعد يومين من زيارة لجوبا، عدت الأولى لمسؤول أمريكي عالي المستوى، قالت فيه “إن الاتفاقية تعكس القيادة وروح جديدة للتسوية بين الدولتين المتنافستين" . وأشادت بشجاعة قيادة جنوب السودان في اتخاذ القرار للتوصل إلى اتفاقية مع السودان لإنهاء أزمة النفط المستمرة منذ 6 أشهر، مؤكدة “أن مستقبل جنوب السودان أصبح الآن أكثر إشراقاً" . ويشير المراقبون إلى أن كلينتون قالت عقب لقائها الرئيس الجنوبي سلفاكير ميارديت إن اتفاقاً مرحلياً سيمنح جنوب السودان الوقت الكافي لتوفيق أوضاعه في النفط . وبالتالي يجب على البلدين التوصل إلى اتفاق بشأن النفط كخطوة أولى نحو إنهاء العداء، وتؤكد بثقة مفرطة “أن هذه لحظات حساسة نحن الآن بحاجة إلى جعل هذه الموارد النفطية تتدفق مجدداً، نسبة من شيء أفضل من لا شيء" . ولم تنسَ كلينتون بالطبع الطرف الآخر، حين أشادت بحكومة السودان لتوصلها إلى اتفاقية النفط مع جنوب السودان، مضيفة أن الاتفاقية “تتيح مخرجاً من الضغط الاقتصادي الشديد" الذي تمر به السودان حالياً . غير أنها أضافت الطعم الأمريكي الحارق إلى مائدة الخرطوم وهي تقول “إذا اتخذت السودان الآن خطوات نحو السلام في كردفان، والنيل الأزرق، ودارفور في الجنوب، واحترمت حقوق جميع المواطنين، فإنها ستمنح شعبها أيضاً مستقبلاً أكثر إشراقاً" . ما حدث في أديس أبابا مطلع الأسبوع، اختزل كل المخاوف والاحتمالات من عواقب وخيمة، برزت بانتهاء مهلة مجلس الأمن للطرفين مطلع الشهر الجاري، في اتفاق بشأن تقاسم موارد النفط، وترك كل ما سواه لاحقاً، هكذا تشير مصادر دبلوماسية مقربة من المفاوضات، أكدت أن القضايا العالقة سترحل إلى سبتمبر/أيلول المقبل، حيث ينتظر عقد قمة بين الرئيسين عمر البشير وسلفاكير ميارديت، تبدو كرابع المستحيلات، في كونها ستحدث اختراقاً إيجاباً لحلحلة كل القضايا . فحتى تفاصيل الاتفاق حول النفط بدت مغلوطة حيناً، ومتقاطعة حيناً آخر، قبل أن تحدث ربكة لمراقبي الاتفاقية، فقد أوردت التقارير أكثر من رقم يحدد مستحقات السودان من نفط الجنوب، فتارة اتفق الطرفان على مبلغ 25 دولاراً و80 سنتاً للبرميل كرسوم عبور ومعالجة لنفط الجنوب الذي يمر عبر الأنبوب والأراضي السودانية . وتارة يجزم كبير مفاوضي الجنوب باقان أموم على رقم آخر، هو 11 دولاراً، لخط جمبك و9 دولارات لخط بترودار، بينما الأرقام شاملة كل الأسعار من ترحيل ومعالجة وتعرفة، وتارة تخرج توضحيات بأن الرقم الأول هو الصحيح وما قاله باقان هو جزء من الرقم الذي يتضمن رسوماً أخرى . في حين تكتفي المصادر بالقول إنه اتفاق الدقائق الأخيرة، أراد الطرفان أن يظهرا أمام الأممالمتحدة وجود تقدم في المفاوضات لتأمين وقت إضافي لحل القضايا الخلافية الأخرى . فن الممكن وعلى أساس أن السياسة لعبة فن الممكن، كما يقول أحد المقربين من المفاوضات، إنه ليس مستغرباً أن يتنازل السودان، الذي كان يطلب احتساب رسم عبور النفط شهرياً يما يعادل 36 دولاراً للبرميل الواحد، أي 23 في المئة من نفط الجنوب الذي يمر عبر أراضيه، إلى الموافقة على أي من الأرقام المعلنة، والتي تقل كثيراً عن ذلك . وبحسبة بسيطة فإن الخرطوم التي كانت تطالب برسوم ترحيل 18،5 دولار للبرميل ورسوم عبور أراض بستة دولارات، ثم رسوم استخدام مرافق المعالجة المركزية وتبلغ خمسة دولارات ونصف الدولار للبرميل، إضافة إلى ستة دولارات لرسوم المناولة والشحن في ميناء بشائر، ترى أن المبلغ المتفق عليه أخيراً، والمتذبذب أن ثبت على 25 دولاراً و80 سنتاً للبرميل، معقول وعادل للطرفين . ويتمسك المتفائلون بالاتفاق، على أنه “خطوة رئيسة نحو حل القضايا العالقة الأخرى"، على الرغم من أنه في أفضل التوقعات لن يكون بإمكان جنوب السودان ضخ كامل إنتاجه من النفط قبل ستة اشهر، وخلال ثلاثة أشهر قد يتمكن من ضخ ثلث الإنتاج أو نصفه، فالطرفان يعلمان أن الوضع الاقتصادي جعلهما في موقف حرج، وليس من السهل العيش تحت هكذا ضغوط . ويتمسك المراقبون بأن حل قضية النفط سيكون مفتاحاً لحل القضايا الأخرى، ويرون أن القضايا الأمنية ليست مقدمة على نظيرتها الاقتصادية، وبالتالي فإن الاتفاق سيحدث نتائج إيجابية بشأن القضايا العالقة الأخرى . كما يراهنون على أن نفط الجنوب مادام ينتج في المناطق المحاذية للسودان، فسيكون من مصلحة الجنوب توفير الأمن وحماية ثروته النفطية، وسيكون الهم الأمنى مشتركاً بين الطرفين، وعلى الأقل في ما يتعلق بمسارات النفط . وتظل الأسئلة حيرى، على الرغم من أن الاتفاق شكّل اختراقاً مهماً في المفاوضات بين البلدين، حول قدرة الاتفاق على الصمود في ظل وجود عقبات متعلقة بقضايا خلافية أخرى وفي مقدمتها المسائل الأمنية . ويشدد خبراء ومحللون على أنه كان من الأفضل التوصل إلى تسوية لكل القضايا مجتمعة، لأنها شديدة الارتباط فيما بينها، ويستندون إلى أن نفط الجنوب ينتج في المناطق الشمالية المحاذية لدولة السودان، وفي ظل عدم توافر الأمن على الشريط الحدودي فإن ذلك يؤثر في صناعة النفط، وفي انسيابه عبر أراضي السودان، وهذا أمر يستوجب حسم قضية أمن الحدود . ويلخص أحد الخبراء الأمر، في أن الأوضاع الاقتصادية هي التي دفعت السودان وجنوب السودان إلى إيجاد تسوية لملف النفط، فبالنسبة إلى الجنوب فإنه مطالب بضمان مصادر تمويل تعوضه عن نحو 650 مليون دولار شهرياً تمثل عوائده من النفط، وذلك أمر غير متاح الآن . أما السودان الذي يواجه ضائقة اقتصادية فهو غير راغب في زيادة متاعبه بالنظر للشح المستمر في موارده بالعملة الصعبة وارتفاع نسبة التضخم، ولذلك لم تكن هناك خيارات أمام الطرفين فاضطرا إلى التوصل إلى هذا الاتفاق . ومع معقولية ومنطقية كل الأحاديث المصاحبة للاتفاق، فإنه يظل اتفاقاً هشاً، نال زخما كثيراً، لكنه على الأرض يعني تأجيل التفاوض إلى حين، فبدلاً من أن يغادر الوفدان أرض أديس أبابا، انتظاراً إلى ذلك الحين، ترقباً وحذراً، فضلا أن يحدثا ما يهون عليهما الانتظار من دون قلق او خوف من ردود فعل المجتمع الدولي . ويشير المراقبون إلى الضغوط وخاصة الأمريكية التي سرعت إعلان هكذا اتفاق، والتي تقف المتغيرات السياسية الخاصة بسباق الانتخابات الأمريكية خلفها، كما يرجحون أن يكون الاتفاق جاء نتيجة لكشف جوبا، التي كانت تعرض أقل من دولار كرسوم عبور، نوايا المجتمع الدولي الحقيقية في عدم فرض عقوبات على السودان بعد انتهاء مهلة مجلس الأمن، وهو الأمر الذي راهنت عليه جوبا لإبراز الخرطوم في موقف المتعنت، لتوافق أيضاً على دفع حزمة تصل إلى ثلاثة مليارات دولار للخرطوم، خاصة أن هيلاري هاتفت وزير الخارجية السوداني علي كرتي في وقت سابق بشأن نوايا أمريكية طيبة تجاه الخرطوم، ومؤكدة أن توتر الأجواء بين الشمال والجنوب لن يمس علاقة أمريكا والخرطوم، في حين يرى مراقبون أن للأمر ما بعده بالنسبة إلى الأمريكيين . ولا يغفل المراقبون الإشارة، في السياق، إلى المبعوث الصيني لإفريقيا الذي زار الخرطوموجوبا في وقت سابق وطالب الدولتين الجارتين بتقديم التنازلات المطلوبة “إن أرادا الخروج من الأزمة التي يعيشان فيها" . اختلاف الرؤيتين ومع التحذير من الإسراف المفرط في التفاؤل، بشأن تجاوز الحكومة لملف النفط، يقلل رئيس الوفد السوداني المفاوض، إدريس محمد عبدالقادر، من ذلك، وهو أكد عقب توقيع الاتفاق، أنه لن يتم تنفيذ أي بند في الاتفاق ما لم يتم حسم القضايا الأمنية في المقام الأول، وربط بداية تنفيذه عقب التوصل لتفاهمات بشأن القضايا الأمنية عقب عيد الفطر . الأمر الذي يخالف رؤية حكومة الجنوب التي أعلن القائم بأعمال سفارتها في الخرطوم، كاو نك موبير، أن بلاده مستعدة لتنفيذ أي اتفاق توصل إليه الجانبان على وجه السرعة، بمعزل عن أي اتفاق آخر ما دام الطرفان قد اتفقا على كل التفاصيل . المخاوف مازالت موجودة حول مقدرة الطرفين على التوصل إلى تفاهمات مرضية حول بقية المسائل، وخاصة ذات الطابع الأمني، وتبرر هذه المخاوف بالنظر إلى القمة المتعثرة المزمع قيامها بين الرئيسين، فقد فشلت الأسبوع الماضي بأديس أبابا بعد ما اعتذر الرئيس البشير، كما لم تخرج قمة مماثلة سابقة انتهزت فرصة المؤتمر الإفريقي حين التقى الرئيسان، وبإعلان حاسم توقع الجميع أن يحدث اختراقاً . ويتمسك المراقبون بتلك المخاوف مستندين إلى مؤشرات عملية منها الرفض القاطع لرئيس وفد التفاوض عن منطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، كمال عبيد، الاعتراف بقطاع الشمال، خاصة أن عبيد يعلن ذلك عقب عودته من مقر المفاوضات في “أديس أبابا"، وقال إن وفد الحكومة رفض التعامل مع ما يسمى (قطاع الشمال) في عملية توصيل المساعدات الإنسانية للمتأثرين من الحرب في أطراف جنوب كردفان، ووافقوا على نقلها عبر آلية تضم المنظمات الدولية والوطنية . ويرى المراقبون، أن قطاع الشمال يعد بنداً مهماً في إنجاز أي تطبيع بين السودان وجنوب السودان، ويشيرون إلى الزخم الإيجابي الذي وجدته موافقة الخرطوم الجلوس والتفاوض مع قطاع الشمال، كأبرز القضايا الخلافية التي تعكر صفو العلاقة بين الطرفين . وما لا تراه الأعين، حسب المراقبين، أن مهلة مجلس الأمن كان الغرض منها تأكيد جدية الطرفين وجلبهما للجلوس على طاولة التفاوض، واستبعاد فرض عقوبات على الدولتين حتى لو لم يتوصلا إلى اتفاق، أما ما سيحدث بعد العيد، فقد لخصه مطرف صديق المفاوض السوداني بقوله “إن العمل مستمر في أديس أبابا للاتفاق على القضايا الخمس المشتمل عليها جدول تفصيلي يمتد لأسابيع أو شهور لاستكمال قضايا الحدود قبل اللجوء لوسائل أخرى، وأن الطرفين اتفقا في قضية أبيي على تشكيل اللجنة الإدارية والمجلس التشريعي والبوليس تمهيداً للحل النهائي، وسيتواصل التفاهم على مستوى اللجان ومستوى الرئاسة" . المصدر: الخليج 9/8/2012م