بالطبع ليس هنالك من شك أن واشنطن بصورة أو بأخري تدير الشأن الجنوبي على الاقل فيما يتعلق بقضية النفط، والجميع يعرف إرتباط واشنطن بالنفط ومنابعه كجزء أصيل وعنصر لا غني لها عنه فى إطار إحكام سطيرتها على الاوضاع فى المناطق المهمّة والاستراتيجية فى العالم. ولهذا فإن الدور الأمريكي فى المفاوضات بين جوباوالخرطوم فيما يخص القضايا الخلافية العالقة – حتى ولو لم يظهر بوضوح – فهو على أية حال أكثر أثراً وسيظل كذلك لسنوات وعقود ما بقيت واشنطن وبقيت مصالحها الحيوية. يعتقد الكثير من المراقبين ان قضية انفصال دولة جنوب السودان نفسها كانت ولا تزال قضية أمريكية بأكثر مما هى رغبة شعبية جنوبية جاءت عبر الاستفتاء، إذ من المعروف ان لواشنطن مشروع تفكيك استرتيجي لعدد من بلدان العالم وعلى وجه الخصوص الدول العربية كسياسة سبق وأن أقرَّها رسمياً الكونغرس الامريكي منذ العام 1980م. وهو مشروع -وفق ما تكشف عنه الوثائق فى هذا الصدد- يشمل العراق وسوريا ومصر والسودان والجزائر وبعض الدول الأخري التى لحساسية مواقفها لم يُعلن عنها صراحة أو رسمياً. ولعل أكثر ما يثير الريبة والغرابة فى هذا الصدد ان واشنطن مع علمها وإقرارها ان النزاع السوداني الجنوبي تتجلّي خطورته فى القضايا الحدودية والملف الأمني الشامل بين الدولتين إلاّ أنها ما فتئت تمارس ضغوطاً شديدة على السودان فيما يخص ما يجري فى المنطقتين، جنوب كردفان والنيل الازرق، بحجة معالجة الأوضاع الانسانية هناك. المبعوث الامريكي الخاص برنستون لميان فى العديد من تصريحاته فى مناسابات شتي ظل يصرّ على أن على الخرطوم ان تعالج الاوضاع الانسانية هناك بما يتيح للمنظمات العاملة فى هذا المجال دخولها والقيام بمهمّتها الانسانية. ليمان نفسه يقرّ بأن جزءاً من التعقيد الأمني فى المنطقتين تسبّب فيه النزاع بين الجانبين، ولكنه رغماً عن ذلك يصرّ على ضرورة فتح الخرطوم المجال واسعاً للعمل الانساني كشرط ضروري لا غني عنه لحلحلة القضية. وبالطبع لن يفوت على فطنة أىِّ مراقب هنا أن الهدف الأساسي من ذلك هو محاولة إسناد ظهر المتمردين هناك وإتاحة الفرصة لهم لتحسين وضعهم العسكري والسياسي، وفوق كل ذلك تمرير ورقة الضغط الجنوبية بفتح الباب لجوبا لكي تكون لاعباً أساسياً حاضراً هناك، فحضور جوبا فى المنطقتين هو بالضرورة حضور لواشنطن بما يكفي لإدارة اللعبة بصورة أفضل وأبعد أثراً. لميان دون شك هو مزيج من رجل السياسة الممتزج بصورة ما بمزيج المخابرات، ولهذا فإن ما يورده من تصوُّرات وما يقوله يصب فى ذات مصب الاستراتيجية الامريكية سواء كانت تلك المُعلن عنها رسمياً أو غير المعلن عنها. نحن إذن حيال تشابُك فى الخيوط أعقد بكثير مما نتصور، فواشنطن تقف خلف جوبا ولكنها فى الوقت نفسه لا توافق جوبا على كل ما تفعله، فكما رأينا فإن وقف ضخ النفط لم يكن إختيارها الاستراتيجي، ومع ذلك إنتظرت قليلاً لكي تتراجع جوبا بطريقة أقل كلفة، وحين لم يحدث لجأت الى الضغط المباشر وهى تدرك ان الأمر يهمّها وحدها فى خاتمة المطاف، وإضطرها ذلك لممالأة السودان ومسايرته ولو مؤقتاً، وأغضبت بدرجة ما جوبا، ولكن فى المحصلة النهائية فهي تمضي بإتجاه إنفاذ استرايجيتها قدماً دون أن تعبأ بأحد!