مع أنَّ من المستبعد تماماً أن تكون جوبا قد شرعت في تهدئة الجبهات المفتوحة مع الخرطوم سواء على صعيد منطقة جنوب كردفان أو النيل الأزرق إلتزاماً منها بروح المفاوضات الجارية حالياً بين الجانبين باعتبار أن جوبا تمسك بهاتين الورقتين بقوة وليس من السهل عليها التخلي عنها؛ إلاّ أن الهدوء الملحوظ الذي يسود بوضوح على صعيد المنطقتين والذي تواصل طوال الشهرين الماضيين يدعو حقاً إلي التأمل ومحاولة استكناه ما وراءه ! هل بالفعل اتجهت جوبا باتجاه تهدئة نزاعها مع الخرطوم؟ هل بدأت تدرك – حتى بعد كل هذا التأخير – أنها لابُد أن تعقد سلاماً على الحدود وترفع يدها نهائياً عن التدخل في الشأن السوداني بهذا القدر السافر؟ هل لتحسُّن العلاقات السودانية الأمريكية الذي لمسته جوبا بوضوح بحاسة سياسية واضحة في الآونة الأخيرة علاقة بما يجري؟ الواقع أن الأمر فيما يخص تكتيك الحكومة الجنوبية يبدو بالغ التعقيد ليس لأنّ جوبا تملك هذا القدر الكافي من المهارة والذكاء؛ ولا لأنّ جوبا – من الأساس – كانت تعرف ما تفعل ونتائج ما قد تؤدي إليه أفعالها ولكن وببساطة شديدة لأن جوبا تبدو غير ملمّة رغم قربها الشديد من واشنطن لطبيعة السياسة الخارجية الأمريكية وبطبيعة قواعد التحالف التي تقيم عليها واشنطن تحالفاتها خاصة في المناطق الإستراتيجية التي يكون فيها لواشنطن مصالحاً حيوية . هذا من جهة ومن جهة ثانية فإن جوبا أسقطت - بدون دراية كافية - من حساباتها طبيعة علاقاتها الإستراتيجية البالغة الأهمية مع الخرطوم، تلك العلاقة التي لا غنى لجوبا عنها أبداً؛ إذ يكفي لإدراك ذلك أن نلاحظ حجم وشدة الآثار السالبة التي إنعكست على جوبا جراء إغلاق السودان لحدوده مع دولة جنوب السودان وافتقار الجنوب وافتقاده للشريان الحيويّ الرئيسي الذي يمدّه بكل شيء بداءً من الغذاء والوقود والسلع والبضائع الأساسية والخدمات – بل حتى على نطاق تحركات المواطنين وعبورهم للحدود كأمر حيوي ألفوه منذ قرون. من المؤكد إن هذه الحسابات الدقيقة لم تتفاعل بالقدر الكافي في ذهن الحكومة الجنوبية وهى تدير صراعاً انتحارياً لا جدوى منه مع الخرطوم. صراع أثار امتعاض حتى حلفائها بما في ذلك واشنطن التي أدركت أن جوبا تخنق نفسها في الوقت الذي تعتقد فيه أنها تحكم الحبل على عنق الخرطوم. ولهذا ليس من السهل القول أن هدوء الأوضاع على صعيد المنطقتين له دخل بتعقُّل مفاجئ أو متأخر أصاب الذهن السياسي الجنوبي. صحيح إن هذا العنصر لا يمكن استبعاده كلية ولكن بالمقابل يصعب وضعه في مقدمة أسباب هذا الهدوء؛ ففي الواقع هناك عناصر وأسباب أخرى أكثر عمقاً، إذ أن جنوب كردفان كادت أن تتحول إلى مأساة بفعل الحرب التي لا جدوى منها وقد بدأت المعاناة هناك تبلوِر رأياً عاماً شديد الفوران بألاّ جدوى من الحرب ومن الضروري وقفها. لقد ظهر جلياً في نداءات النخب وقادة الحركة الشعبية جناح السلام، واعيان وقادة المنطقة بمختلف توجهاتهم وكان واضحاً إن الذين أوقدوا الحرب أصبحوا أعداء للمنطقة وأهلها أجمعين وقد شكل هذا الموقف سياجاً منيعاً جداً يصعب اختراقه وربما يصل الأمر إلى درجة اشتعال حرب بين جوباوالخرطوم لا فائدة لجوبا من ورائها مهما كانت مكابرة وعنيدة إذ أنَّ الحروب ومهما كان مقدار وقدرة مشعليها هي أمر مستهجن وغير مرحب به. الأمر التاني، أن تحركات القوة المتمردة وهي قوة باتت معزولة أضحت صعبة للغاية في ظل إحكام الجيش السوداني لسيطرته على المنطقة وقد رأينا كيف اضطرت العناصر المتمردة وهي في قمة عجزها لإبتكار أسلوب الاغتيالات السياسية الذي زاد من مساحة الكراهية ضدها وعمل على تقوية وتمتين الجبهة الداخلية هناك. ببساطة لقد انغلق الباب الذي ظلت تلج عبره قوة التمرد في جنوب كردفان وربما أدركت جوبا إن الميدان لم يعد بذلك الاتساع وأن جهدها ومالها في ظل أزمتها الاقتصادية المتصاعدة يعني يمضي نحو الهدر والضياع وألجأها هذا لنفض يدها ولو مؤقتاً ومحاولة البحث عن أوراق أخرى!