لم يكن مهمّاً ما إذا كان المستشار الأممي الموفد لدولة جنوب السودان والذى فرَّ الى واشنطن مؤخراً عقب كشفه عن سرقة القادة الجنوبيين لحوالي 4 مليار دولار، لم يكن مهماً ما إذا كانت القضية برمتها سيجري إحتواؤها أو أن بها ما يثير الشكوك، أو أن الرجل تملكه خوف وتسبب فى إعطاء القضية بعداً دارمياً مثيراً. المهم فى قضية المستشار (تيدي داغني) الاثيوبي الأصل الامريكي الجنسية أنه لم يأت الى جوبا بتعاقد أممي خاص حين أتي فى يناير مطلع هذا العام 2012 كمستشار أو مجرد موظف أممي أُنتدب لتقديم المشورة للرئيس سلفا كير بشأن سياسة محاربة الفساد والعلاقات الدولية كما يشير خطاب تعيينه والوثائق المودعة لدي الحكومة الجنوبية. (داغني) كان فى مهمة أكبر وأعقد من ذلك بكثير، ولهذا فإن فداحة الكارثة التى خلَّفها تصرفه فى دولة الجنوب لا تقتصر على كشف الحجم المهول للفساد الذي غرق فيه القادة الجنوبيين الى أذنيهم ودفعت الرئيس كير - بمشورة داغني - لكتابة 75 خطاباً لقادته بغرض إرجاع المال المنهوب أو حتى ما تيسَّر منه، ولكن الكارثة تمتد الى أكثر من ذلك لتشير الى ان الرجل نجح فى تنفيذ مهمته الصعبة بإحكام السيطرة على القادة الجنوبيين والوقوف - ميدانياً - على أدق دقائق أسرار القادة وربما للإستفادة من ذلك فى تقديرات أمريكية فى مرحلة قادمة. ويكفي ان نعلم فى هذا الصدد ان داغني أصلاً ربطته صلة وثيقة للغاية بالراحل قرنق، كما أنه عمل فى الكونغرس - كباحث - لمدة تربو عن العشرين عاماً! وهى سيرة ذاتية تثير التساؤلات فى بلد مثل الولاياتالمتحدة من النادر جداً ان يعمل فيها موظف لكل هذا القدر من السنوات الطوال دون أن يتكيء على جدار السي آي ايه! بل دون ان يكون قد تقاطع معها فى منعطف من المنعطفات، ولعلَّ أصدق دليل على هذه النقطة الحساسة أولاً، ان الرجل وبطريقة غير مفهومة جري تعيينه عبر تعاقد (خاص) مع الأممالمتحدة فى هذا المنصب ورشحته هيلدا جونسون! ولم يُكشف رسمياً عن ذلك، بل ما كان ليُكشَف عن القصة لو لم يحدث ما حدث ويضطر الرجل - تحت دواعي الخوف من التصفية أو ربما الحرص على ما لديه وما وقع تحت يده من أسرار - للهرب والفرار بجلده طالباً الحماية فى واشنطن! الأمر الثاني أن الرجل لم يطلع أحداً حتى الآن على الكيفية التى إستطاع عبرها ان يصل الى تحديد الرقم المسروق من المال الجنوبي بواسطة القادة الجنوبيين والبالغ 4 مليارات دولار ولكن مسئولاً رفيعاً فى واشنطن حجبت الصحف إسمه وصفته، وصفت (داغني) بأنه حاد الذكاء وأنه من المستبعد ان يكون قد لفّق وقائعاً أو قال ما قال إنطلاقاً من تقديرات جزافية، فقد قضي فى جوبا ما يجاوز ال6 أشهر وهى كافية تماماً ليضع يده على كل شيء. مستخلص كل هذه الوقائع وما يهمّنا فيها بالدرجة الاولي أن القادة الجنوبيين أظهروا ذكاءً متواضعاً للغاية حتى دون الحد الأدني فى تعاملهم مع الولاياتالمتحدة والغرب عموماً، إذ أنهم – وبدون أدني حذر – فتحوا أبوابهم لكل من يعتقدون أنه مفيد لهم فى مواجهتهم العدوانية للسودان. وثقوا فى الكل ما عدا الخرطوم. خامرهم شعور بأن الامريكيين يحبونهم ويعملون لصالحهم بينما العدو هو السودان، وكلنا يعرف كيف تخلَّص القادة الجنوبيين من كل المسئولين السودانيين الذين كانوا يعملون فى دولة الجنوب بحجة أنهم ذوي صلة بالمخابرات السودانية، كانوا ولا يزالون يعتقدون – بسذاجة نادرة – أن عيون المخابرات السودانية أخطر عليهم من الموساد والسي آي أيه لأن الأخيرين أصدقائهم! إن أبلغ دليل على حالة العدوانية التى يعيشها القادة الجنوبيين هى أن (داغني) فرّ بجلده منهم وصرّح بأنه ذهب (محبطاً) للغاية، فقد غابت التنمية تماماً فى الدولة الجنوبية الوليدة، كما ان الرئيس كير لم يدرِ كيف يتعامل مع سرقات قادته، بل فشل حتى فى كيفية التعامل مع إستشارة داغني له وقام بفضحه معرِّضاً حياته للخطر. إنها سوء النية الجنوبية التى جعلت قادة الدولة الوليدة بهذا القدر من السطحية والسوء والفساد.