بصرف النظر عن مجريات عمليات التفاوض – سواء تلك الخاصة بالقضايا الخلافية العالقة بين جوبا والخرطوم، أو تلك التى تختص بما يسمي بقطاع الشمال فإن مجمل تفاصيل هذه العملية الشاقة لا تخلو من إرباك. وكما قلنا مراراً فهي من بنات أفكار الولاياتالمتحدة التى إختطت نهج تقسيم وتكسير القضايا التى عادة ما تُطرح فى أية مفاوضات لها فيها مصالح استراتيجية بحيث ينشغل ذهن المفاوضين بصغائر الأمور ويجدون صعوبة بالغة فى النظر الشامل لما هو مطروح، وحين يتحقق تقدم -ولو يسير- فى أىّ جزء من هذه القضايا مع أنها فى مجملها قضية واحدة لا تتجزأ، يشعر المفاوضين بأن تقدماً كبيراً قد أحرز. هذه فى الحقيقة إحدي أهمّ وأبرز معضلات عمليات التفاوض الجاري فى أديس أبابا بمساقيها الإثنين. ولا نعتقد أن الوفد السوداني المفاوض تغيب عنه هذه الملاحظة المهمّة، ولكن ومع ذلك فإن الأمر يبدو أعقد من أىّ وسيلة لتفادي هذا الارتباك المقصود. ومن الضروري أن نلاحظ هنا، أن القرار 2046 ومنذ صدوره فى مطلع مايو الماضي حوي عناصر إرباك واضحة، ولكن ومع وضوحها فقد بدا صعباً فك قيد الارتباك والتحلُّل منه. ولعل أحد أهم عناصر الارباك فيه الحديث عن الفصل السابع وما قد يُفرض من عقوبات حال عدم توصل الأطراف الى إتفاق. ليس من السهل القول ان هذا العنصر لم يشغل بال المتفاوضين، وما من شك ان الاشارة الى العقوبات حتى ولو كانت رمزية أو غير مؤثرة فهي تصبح شغلاً شاغلاً خاصة لدي الطرف الذى يعتقد أنه هو الطرف المتحامَل عليها دائماً، وتظل حاضرة فى الذهن – قياماً وقعوداً – حتى ولو كانت هذه العقوبات لا تعني شيئاً. وربما لهذا السبب أشار الدكتور أمين حسن عمر فى تصريحات له – الثلاثاء الماضية – الى أن بلاده لا تتوقع فرض عقوبات عليها حال فشل المفاوضات. ولم يسهب عمر كثيراً فى شرح تحليله ولكنه أشار بإختصار الى حسابات معينة فى مجلس الأمن من المؤكد أنها قائمة على حقائق لا تتوفر عادة إلا للحكومة وفق إتصالاتها وحراكها فى أروقة المنظمة الدولية وتفاهماتها مع بعض أعضاء مجلس الامن. ونحن من جانبنا وفق متابعات لنا فى نيويورك نشارك د. أمين رؤيته هذه، ولكن فى ذات الوقت فإن هذا لا ينفي أن المفاوض داخل قاعات التفاوض يظل مهتمّاً للغاية بهذا العنصر . الامر الثاني، فإن مسيرة التفاوض تبدو وكأنّها تمضي بإتجاه حلحلة كل القضايا بكاملها ومع كل تعقيداتها بضربة واحدة! ولعل أكثر ما يعزز من هذا الفرض إصرار مجلس الأمن وفق بيانه الصادر السبت قبل الماضي على ضرورة عقد قمة رئاسية بين الرئيسين كير والبشير، لحسم الملف بكامله. ولكن لم يعرف التاريخ حديثاً وقديماً حلحلة قضايا بهذا القدر من التعقيد فى أيام. من المؤكد أن حلاً عاجلاً هو المقصود بحيث تتراجع حدة التوتر وترتاح الأعصاب قليلاً، ريثما يندلع خلاف لاحقاً؛ أو أن العملية لا تعدو ان تكون عملية (ترحيل) الى حين إنجلاء غبار المعركة الانتخابية الأمريكية فى نوفمبر المقبل ووقتها يكون لكل حادث حديث. إن من الخطأ أن تركن الحكومة السودانية – مهما كانت دقة حساباتها – الى مثل هذه الحلول السريعة على طريقة وجبات الساندوتش المشتهرة أمريكياً. ثم إن الأسوأ من كل ذلك، ان تفضي المفاوضات الى عملية (تجميع) لنتائج القضايا العالقة مع نتائج قطاع الشمال، فهذه هى استراتيجية جوبا التى حلمت بها كثيراً، أن تحصل على ما تريد علي مائدتها ثم يأتيها خراج مائدة قطاع الشمال وهى جالسة فى محلّها، بحيث تحلم (بجزء من نسيجها السياسي) الذى كان رتقاً بها فى ما سبق وقبل الانفصال وقد أصبح مكوناً سياسياً حاضراً فى الساحة السياسية السودانية!