فى الوقت الذى قطع فيه المؤتمر الوطني بعدم خضوع الحكومة السودانية للضغوط الأمريكية بشأن حلحلة القضايا الخلافية بينها وبين الحكومة الجنوبية وعدم قبول الخريطة المقرر إنشاء المنطقة العازلة على أساسها مهما كان الثمن؛ كثفت مندوبة الولاياتالمتحدة فى مجلس الأمن السيدة سوزان رايس من إنتقاداتها للخرطوم، مرسلةً سيلاً من التهديدات والوعيد للأخيرة حال عدم التوصل لاتفاق . السيدة رايس ومع كونها معروفة منذ سنوات بعدائها السافر للخرطوم ولهجتها الحادة – غير الدبلوماسية – إلاّ انها وفقاً لمتابعاتنا وللعديد من المراقبين فى مقر الأممالمتحدة بنيويورك لا تملك بالقدر الكافي عناصر إمكانية تنفيذ تهديداتها عمليّاً. أقصي ما هو متاح أمامها فى المجلس - وفق مقتضيات القرار 2046 - هو العقوبات التى لن تتجاوز المقاطعة الدبلوماسية على أقصي تقدير. وحتى فى هذه الحالة ولو إفترضنا جدلاً أن العقوبات هذه أمكن تمريرها بسلاسة من المجلس فى الموعد المضروب فى الاسبوع الاخير من شهر سبتمبر الجاري، فإن المجتمع الدولي لن يكون قد حقق (الأمن والسلم الدوليين)، كما أن الأزمة لن تحل ولن يعرف أحد بعدها - بما فى ذلك رايس نفسها - كيف ستحل!؟ الوجه الآخر لتهديدات رايس غير العقوبات لن يتجاوز فرض مقترحات محددة للحل؛ وكما رأينا فإن المقترحات هى الاخري ستكون كلها -بالكامل- لصالح دولة الجنوب؛ خاصة فى شأن الحدود المشتركة والمنطقة العازلة. ولكن فى هذه الحالة، فإن السؤال الذى سوف ينهض على الفور هو ما مدي مشروعية الزام طرفين دوليين بمقترحات دولية ليست نابعة من صميم إرادتيهما المشتركة؟ من المؤكد ان الأمر هنا يهزم مبدأً مهمّاً للغاية فى القانون الدولي الذى يقوم فى مجمله على الاتفاقيات الدولية بين الدول وحرية كل دولة - حرية مطلقة - فى إبرام الاتفاقيات أو رفضها بصرف النظر عن حججها القانونية أو السياسية. حتى الآن – وما لم تأتِ واشنطن بسابقة غير معهودة – فإن القانون الدولي لا يعرف إجبار طرفين على عقد إتفاق لم تتوفر الإرادة الكاملة لهما ولم يقررا – معاً – جعله معبِّراً عنهما بحيث تنطبق عليه القاعدة القانونية الشهيرة (العقد شريعة المتعاقدين). ولهذا يبدو من الصعب ان لم يكن من المستحيل أن يصدر عن مجلس الأمن الدولي قراراً يقضي بإجبار جوباوالخرطوم بالاتفاق على ما لم يتفقا عليه! ولو حدث ذلك، فإنه من أىّ وجهة قانونية نظرنا اليه لن يكون ملزماً؛ كما لن يتوفر له الغطاء القانوني المناسب للتنفيذ سواء بالضغوط أو باستخدام القوة! إذن رايس فيما يبدو تستهدف تكثيف الضغط على الطرفين وبقدر أكبر على الطرف السوداني، ولا تملك عملياً، أكثر من ذلك، خاصة وأننا فى خضم عملية إنتخابية معقّدة تقترب بشدة فى الولاياتالمتحدة. ولن يفوتنا فى هذا الصدد – من واقع متابعاتنا لطريقة التفكير الأمريكي – الاشارة الى أنّ واشنطن لن تجد في يدها شيء تفعله سوي بالتنقيب فى الأوراق القديمة، مثل ورقة لاهاي ومذكرات التوقيف الصادرة عنها بحق المسئولين السودانيين. لن يمر وقت طويل حال تعثر المفاوضات وإصرار الخرطوم على رفضها للمنطقة العازلة وفق الخريطة المقترحة حتى تلوح لاهاي - بضغطة على الزر - بورقة الملاحقة القضائية. حدث ذلك كثيراً جداً فى مناسبات سابقة مختلفة ولم تكن النتائج كما كانت تشتهي واشنطن. وعلى أية حال من السابق لأوانه الآن معرفة ما قد تقدم عليه رايس والتى يري الكثير من المحللين بأن ملف النزاع السوداني الجنوبي ما كان ليصل مجلس الأمن ويتخذ هذا الطابع المعقّد لو لم تكن رايس، ورايس وحدها هناك!