لن يكون من قبيل التقليل السياسي أو المبالغة في الوزن والتوصيف القول ان ما يطلق عليه قطاع الشمال ليس سوي أكذوبة وأيّما أكذوبة! الأمر هنا لا يتعلق بالسخرية من القطاع أو محاولة تخليص السودان من تبعات ما قرّره مجلس الأمن من إلزامية التفاوض معه بموجب القرار 2046 ، فالقطاع حتي مع وجود الحركة الشعبية علي أيام شراكتها السياسية في السلطة المركزية والولايات قبل انفصال الجنوب، لم يكن شيئاً مذكوراً. كلنا يعلم كيف اضطر الرئيس سلفا كير في ذلك الحين – والقطاع يعمل في وجود الحركة الأم – الي تجميد هياكله وتركه ريثماً يجد حلاً له بعدما أطبقت المشاكل والخلافات بقادته ومنسوبيه، ووصلت نزاعاته الي أقسام الشرطة وردهات النيابات العامة. الآلاف وليس فقط المئات منذ ذلك الحين – قبل أكثر من خمسة سنوات – تركوا القطاع كله غير آسفين ولا نادمين علي مفارقته، ولسنا في حاجة لتِعداد الأسماء والصفات ولمن أراد الإستزادة فليرجع الي القيادي حينها غازي سليمان ووليد حامد. وقد زاد الطين بلة توجُّه الحركة الشعبية نحو الانفصال؛ إذ ما أن أيقنَ العديد من قادة ومنسوبي القطاع أن الحركة الشعبية خدعتهم وباتت قاب قوسين من فصل إقليمها حتي تركوا الأمر تماماً وحاصرهم اليأس والقنوط وقنعوا بأن الأمر كله قد انتهي بغياب زعيم الحركة د. جون قرنق! القطاع لم يكن في حقيقته في ذلك الحين سوي تجمُّعاً ليساريين كان قد لفت نظرهم منطق الراحل قرنق وخلفياته الأيدلوجية المعروفة ورأوا فيه خلاصاً لهم، ولهذا فإن الذين فضلوا البقاء – مثل عرمان وعقار والحلو – بعد رحيل جون قرنق وبعد توجه الحركة نحو الانفصال لم يبقوا بدافع النضال المبدئي ولا الإخلاص الوطني سعياً لحل قضايا السودان، بقدر ما بقوا- مضطرين- نظراً لإنعدام خياراتهم السياسية من جهة ولإستحالة أن يجدوا لأنفسهم - بعيداً عن الحركة الأم في الجنوب - مكانة سياسية مناسبة أو غير مناسبة في الساحة السياسية السودانية. إنَّ مكمَن الأكذوبة الكبري في القطاع هي في أنَّ القطاع – وحده – ومن دون الحركة الأم لن يساوي شيئاً قط؛ فلا هو يملك عضوية معتبرة تستحق الاحترام أو لها وزن؛ ولا هو قادر علي التأقلم مع المناخ السياسي السوداني العام نظراً لأطروحاته ذات المنحي العنصري من جانب، ولأنَّ قادته من المنبوذين سياسياً في الساحة السودانية بالنظر الي تاريخهم الطويل المؤسف في العمل ضد الوطن وليس فقط ضد السلطة الحاكمة، من جانب آخر. كانت هي حالة يُتم سياسي مريعة خاف القطاع من تبعاتها؛ ففي حين نجح عقار بالكاد في الوصول الي منصب الوالي في النيل الأزرق واتضح لاحقاً أنه لم يكن يستحق، فشل الحلو في نيل ثقة الناخبين في جنوب كردفان ؛ وهذا يفسر لماذا فضّل الحلو حمل السلاح ومقاتلة الدولة السودانية لأن شعوره بأنه بات أقرب الي اليتيم وإمكانية ضياعه في زحام الساحة السياسية السودانية لم يدع له المجال للتفكير ولقبول الواقع الديمقراطي الماثل. وحين تبعه عقار هو الآخر مع أنه كان يتظاهر بغير ذلك، فإنَّ ذلك كان أقوي دليل علي أن قادة القطاع شعروا بأنهم لن يستطيعوا أن يصبحوا شيئاً مذكوراً. أما جوبا فهي بالتأكيد تستخدم هؤلاء البؤساء وهي الأدري بتعاستهم وبؤسهم السياسي لصالح إستراتيجيتها الخاصة. هي تريد إنشاء حزام حولها يديره بعض منسوبيها السابقين حتي تعطي نفسها شعواً بالأمان وإمكانية التأثير في الملعب السياسي السوداني رغم مفارقتها له. وهكذا إلتقي الاثنان – القطاع الذي لا حول ولا قوة له في الساحة السودانية، والحركة الجنوبية الباحثة عن من يوفر لها طريقاً للتأثير في الساحة السودانية أو ظل يتحرك فيها يحمل اسمها وأفكارها ورؤاها. ومن الطبيعي أن هذا الوضع لم ينجح ولا يمكن أن ينجح أبداً، فاللعبة تتجاوز المنطق وطبيعة الأشياء وهذا ما جعلنا نقول إن قطاع الشمال في الواقع ليس سوي أكذوبة.. أكذوبة تاريخية كبري سوف تتضح عناصرها أكثر في مقبل الأيام!