قد يبدو أن التحكيم – كحل أخير – بعد فشل كل محاولات التسوية والمعالجة الممكنة لقضية ترسيم الحدود بين دولتيّ السوان وجنوب السودان هو الأنجع لفض النزاع؛ ولكن -للأسف الشديد- فإن التحكيم فى الواقع هو عنصر التعقيد الأكبر. وقبل أن نغمس القلم فى هذا الحبر التحليلي القاتم فإن من الضروري للغاية أن نشير بدءاً الى أن كافة الملفات موضع الخلاف بين جوبا والخرطوم – وعلى وجه الخصوص ملف الحدود – يريد لها الأمريكيين والبريطانيين أن تمتد لأطول مدي زمني ممكن، أو حتى تتخذ طابعاً مزمناً ذلك على الرغم من حرصهما الظاهريّ على حلها، فهي حلول كما بدأت تظهر جلياً عابرة ومؤقتة لن يتجاوز أثرها أشهراً أو أسابيع، ولكن الحل النهائي مفقود، بل وليس مطلوباً. أما مقترح التحكيم الذى بدأ يلوح فى الأفق فهو دون شك لا يخلو من خطورة، بل لا نغالي إن قلنا إن ملف الحدود إذا ما تم الدفع به الى هيئة محكِّمة الآن أو لاحقاً فسوف يكون ذاك بالضبط ما يناسب جوبا من ناحية، وواشنطن ولندن من ناحية أخري لأنه يمنحهم مدي زمني أطول هم فى حاجة اليه، وقبل أيضاً أن نفصِّل فى ذلك نشير الى نقطة خطيرة للغاية أوردها المبعوث البريطاني الخاص الى السودان (روبرت غيون) فى مدونته الخاصة على الانترنت فحواها ان خارطة الوسيط المشترك (ثامبو أمبيكي) المتختلَف حولها بين الطرفين والتى تضع الميل 14 رغم كونها منطقة سودانية على الجانب الجنوبي، لن يكون لها أثر على الوضع النهائي للخط الحدودي! ويورِد (غوين) نصاً (لقد تم التأكيد مراراً بواسطة مجلس الأمن الدولي ومن داخل الاتحاد الافريقي على أن الخريطة ليس لها أىّ تأثير على الوضع النهائي للخط الحدودي، وهو ما يحتاج ثقة الطرفين)! ومع أن السؤال البديهي الذى يترتب على هذا القول المجانب للمنطق تماماً هو لماذا إذن - طالما أن الخريطة لا أهمية لها فى إقرار الوضع الحدودي النهائي - يتم الإصرار عليها الآن ويجري تحديد المنطقة العازلة المنزوعة السلاح على أساسها؟ بل السؤال الأكثر إلحاحاً هو لماذا العجلة فى إقرار المنطقة العازلة على أساس خط حدودي متحرك وغير ثابت؟ من المؤكد إنَّ لواضعي الخريطة أسبابهم ولكنها دون شك أسباب غير مجدية وغير مفيدة للسودان، إذ لن يكون للسودان ما يحاجج به، إذا وثق فى مثل هذه الحجة الفجة وعاد لاحقاً ليطالب بزحزحة المنطقة العازلة وتغييرها بعد أن سبق وأن وافق عليها. هنالك دون أدني شك خدعة للأسف الشديد ليست ذكية، ففي الفقه القانوني عامة هناك مبدأ قانوني يقول (إن من سعي لنقض ما تم علي يديه فسعيه مردود عليه) وهى قاعدة من الوضوح بحيث لا تحتاج الى شرح. لن يكون فى وسع السودان القبول بوضع كهذا ثم العودة فيما بعد للتراجع عنه أو نقضه. ومع ذلك فإن قضية اللجوء الى التحكيم نفسها حتى ولو تم الآن تجاوز هذه المعضلة تظل بمثابة فخ منصوب بعناية فعوضاً عن أن تجربة التحكيم بين البلدين فى حالة أبيي مثلاً لم تكن مشجعة حين عادت جوبا لنقض قرار هيئة التحكيم فى لاهاي بمحاولة ضم منطقة هجليج التى كان القرار فى أخرجها تماماً من حدودها، فإن الارتياح البادي على الحكومة الجنوبية حيال مبدأ التحكيم يثير الريبة والشكوك، خاصة إذا قرنّاه بإرتياح وسعي واشنطن هى أيضاً للتحكيم. الأمر الثاني – وهو الأهمّ – فإن مثل هذه المقترحات تشجع جوبا على وضع يدها على المزيد من المناطق السودانية ثم المطالبة بالتحكيم ويصبح الأمر بهذه الطريقة عنواناً لمسلسل مطول من المنازعات الحدودية التى لا تنتهي. أما أكبر خدعة فى قضية التحكيم هذه فهي أن جوبا لم تكن تنازع نزاعاً حقيقياً، فهي فعلت ذلك فقط لأغراض تكتيكية الهدف منها مقايضة ما تنازع حوله جديّاً مثل أبيي مع المناطق التى تنازع حولها تكتيكياً، فهي (ترد للسودان بضاعته) وتلك لعمري حيلة ماكرة من النادر ألا تكون قد إستقرت فى ذهن المفاوض السوداني!