مع أن التغيير الكبير الذى جري مؤخراً فى كابينة القيادة بحركة العدل والمساواة الدارفورية المتمردة بإقصاء زعيمها جبريل إبراهيم وإحلال مجلس عسكري إنتقالي بدلاً عنه ريثما ينعقد المؤتمر العام خلال 45 يوماً لإختيار قادة ومؤسسات جديدة إعتبره المراقبون إنفجاراً كبيراً غير مسبوق فى تاريخ الحركة، إلاّ أن الواقع الذى ربما بدا عصياً على التصديق أن ما جري كان فقط تمهيداً للإنفجار الأكبر ولم يكن هو الانفجار الكبير المتوقع، ذلك أن التعقيدات داخل هذه الحركة الشديدة الغبن، كثيرة المغامرات، دائمة التنقل من تحالف الى آخر ومن موقع الى آخر منذ حياة قائدها السابق خليل ابراهيم، هى تعقيدات أعقد وأصعب من أن تستطيع المجموعة التى تسلّمت القيادة أو أىّ مجموعة أخري، أو حتى القيادة السابقة حلحلتها ومعالجة الداء العُضال الذى تمكن من جسد الحركة. التعقيدات التى تعاني منها الحركة تبدأ من نشأتها وخلفيّتها الايدلوجية وطريقة بناء هياكلها وتمويلها وطريقة تحركاتها العسكرية وأهدافها! هى منظومة شاملة من المشاكل المعقدة فى كل جزء من جسدها الواهن، فالحركة نشأت كما يَبِين من إسمها بداعي البحث عن عدل ومساواة؛ ويري الكثير ممن تابعوا نشأتها أنها كانت فى الواقع تعبيراً أقرب للصفة العنصرية والجهوية من أىّ شيء آخر. كما أن زعيمها خليل يري أن ابناء دارفور يجب أن يصلوا الى قمة الهرم فى السلطة فى السودان وأن يشاركوا على كافة المستويات وربما بدا الأمر بهذه المثابة بسيطاً ومفهوماً، ولكن سرعان ما واتي خليل طموحاً غير محدود السقف بأن ينتزع أعلي قمة السلّم فى السلطة فى السودان بقوته العسكرية، وهو ايضاً طموح بالنظر الى تكوين الرجل وأفقه السياسي الذى لا نشك أنه كان محدوداً إن لم يكن مسدوداً، لا غبار عليه، رغم ما فى ذلك من محاذير، أضطر لدفع ثمنها هو شخصياً بذهابه ضحية لطموحه فى ود بندة بشمال دارفور وكردفان، قبل أشهر خلت. المحاذير تمثلت فى الاندفاع غير المحسوب والمدفوع بغبن ذي طبيعة شخصية؛ ثم الاستعانة بما هو أسوأ من الشيطان مثل اسرائيل ونظام القذافي . كان أمراً بالغ الغرابة والتعاسة أنّ من تربّي فى حضن الحركة الاسلامية وترعرع فى كنف التعاليم والقيم الاسلامية والتقاليد الدارفورية يتحول الى حليف لقوى خارجية يعمل لحسابها ويظن أنه يعمل لحسابه هو! ولمّا شعر خليل بأنه يفعل ما يفعل دون رابط أو ضابط وأن الهوّة ما فتئت تتسع كل يوم بينه وبين أهل دارفور لم يكن أمامه سوي تقوية زعامته للحركة عن طريق الاستعانة بأسرته الصغيرة متمثلة فى أشقائه وأخوانه غير الاشقاء وبني عمومته، ثم الذين يلونهم فى سلسلة مغلقة وحلقة جهنمية لها حدودها وأسلاكها الشائكة. فى اللحظة التى أصبح فيها إعتماد خليل الكامل على أهل بيته وعشيرته كانت حركته قد دخلت فى نفق مظلم، فقد بدأت تتباعد الخطوط ما بين القادة و بدأت الشكوك تدب فى القلوب، والمخاوف تأخذ بالألباب، فما كان من خليل سوي أن إندفع فى مغامرات طائشة بكل ما تعنيه الكلمة؛ خسرت فيها حركته خسائراً جسيمة بدون أىّ داعٍ ودون حسابات. إن البذور العنصرية البالغة السوء التى بذرها خليل فى حركته ما تزال فى الواقع تتلمس طريقها لتنفجر. هى لم تنفجر بعد وكان أكبر خطأ وقعت فيه الحركة بعد غياب خليل أنها مضت على ذات النهج، فعملت علي توريث الزعامة لشقيقه جبريل والذى ما تواني هو الآخر فى السير فى ذات الطريق؛ بل يمكن القول أن ادارة جبريل للحركة كانت أكثر سوءاً، إذ أنه وعوضاً عن تركيزه على العامل الاثني والغبن السياسي، ودخول التحالفات الغامضة (الثورية مثلاً) ودخول المغامرات الطائشة فقد عمل على إبقاء الشأن المالي طيّ الكتمان وفى حدود أهله وعشيرته. كان واضحاً بعد حوالي 10 أعوام من نشأة الحركة أنها لم تكن سوي تجمّعاً قبيلاً مدججاً بالسلاح متشابك العلاقات محلياً وخارجياً منقطع الصلة بأهل دارفور، بل وفى كثير من الأحيان حرباً عليهم بما يقوم به من هجمات مباغتة للسلب والنهب لتشوين ودعم الحركة. كما أن الرصيد السياسي للحركة فى نظر الحكومة السودانية والمجتمع الدولي تراجع الى حد الصِغر، وهو ما تجلّي بوضوح فى النقد اللاذع الذى وجّهه المسئولين البريطانيين مؤخراً لممثل الحركة فى لندن (أحمد حسين آدم) حين إنتقدوا الصفة العنصرية للحركة وإنتهاكات حقوق الانسان بداخلها، وكان مجمل ما قالوه ان الحركة قد إنتهت. إن المشكلة الآن ليس فى تصدُّع الحركة وتراجعها الى حد الممات، فهذه أمور لم يعد يدور حولها أىّ جدل؛ المشكلة ان التعقيدات القابلة للإنفجار داخل احشاء الحركة والتى ظلت تحتدم منذ حياة زعيمها خليل لم تنفجر بعد، وهي مرشحة للإنفجار فى أية لحظة، وهو ما عنيناه بالضبط من أن الحركة فى الواقع ماتت قبل الانفجار!