قوى المعارضة السودانية التى يمكن حسابها ضمن الجهات المتأثرة سلباً بالإتفاق الذى تم فى أديس أبابا، على إعتبار ان الاتفاق -ولو على المستوي النظري- سيطيل من عمر الحكومة السودانية وربما يمنحها فترة رئاسية أخري فى الاستحقاق الانتخابي المقبل للمزيد من ترسيخ الاستقرار بين الدولتين، هى الآن ما بين منتقدة للإتفاق شكلاً لكونه لم يستصحبها فى المفاوضات، ومن ثم تعيد قول مقولتها المكرورة ان الاتفاق ثنائي! أو غير متحمسة للإتفاق لإداركها انه مفتاح حل الأزمة الحقيقية بين الدولتين ومن ثم سوف تغيب تباعاً بقية الأزمات ويصبح وجودها كمعارضة، كالجالس على الرصيف يقضم أظافره ويتمنّي الأماني، أو داعيةً متمنيةً أن ينهار الاتفاق فى المحك العملي التنفيذي ليعود الكل الى المربع الأول والمفضّل عندها. وهكذا، ما من سياسي عاقل بين ساسة المعارضة السودانية ينظر الى مضمون وجوهر الاتفاق السوداني الجنوبي من منظوره الاستراتيجي الصحيح . الكل يبحث خارج النصوص وبعيداً عن الأوراق عن (مصالحه الخاصة) التى تتيح له الوصول الى السلطة. ولهذا فإن قوى المعارضة السودانية - إن لم تعلن رسمياً وصراحة - عن دعمها ومساندتها للإتفاق وتنخرط فى عمل سياسي وطني جاد فى تدعيم البناء الجديد فهي تدق آخر مسمار فى نعشه على الرغم من انها ماتت قبل ذلك بسنوات عديدة موتاً سريرياً، ولعل الخطأ الذى وقعت فيه هذه القوى منذ البداية أنها عزلت نفسها عن المجري السياسي الوطني العام، وإعتقدت أنها الوحيدة القادرة على حلحلة قضايا البلاد، لهذا فإن أكبر سوء حظ وسوء تقدير إرتكبته أنها وقبل أيام أو سويعات من الاتفاق الذى كانت تتوقع استحالة الوصول اليه، صاغت وثيقة البديل الديمقراطي. وهى الوثيقة الحالمة التى ضمّنتها تصوراتها لمرحلة (ما بعد إسقاط النظام) وكان غريباً بحق أنه وعلى سهولة الأحلام التى حلقت فى سماواتها والتصورات السهلة المجانية لم تتعرض قط لمستجدات ما بعد مفاوضات أديس أبابا؛ لم تضع إحتمالاً لإمكانية نجاح المفاوضات وما سوف ينجم عنها من إستحقاقات وبنود ومتغيرات سياسية تجعل من وثيقتها تلك أثراً بعد عين وتحولها الى (كتاب تاريخ متحفي)! لقد كانت دلالة هذا الموقف عميقة بحيث وضح معها ضحالة التصور السياسي لهذه القوى وعدم وجود أفق سياسي يستوعب قضايا السودان الكلّية. لقد كانت مقتضيات السياسة تستلزم ان تنتظر هذه القوى قليلاً فهي إنتظرت عقوداً تجلس فى ذات المكان وبذات الثياب البالية وذات التصورات القديمة، وكانت مقتضيات العمل السياسي الذكي تقتضي ان تضع تصوراً وطنياً جاداً لكيفية الحل بين جوبا والخرطوم وتدفع به الى وفد التفاوض، فهي فى هذه الحالة ربما تكون قدّمت عملاً وطنياً يحسب لصالحها مهما كانت ضآلة ما يعود لها من عائد سياسي، فهي كانت ستقول أنا قدمت لبلدي. أو كان بوسعها أيضاً ان تذهب الى أديس - سراً أو علناً - وتقدم إسناداً سياسياً لوفد التفاوض على إعتبار ان هذا عمل وطني يتصل بمصالح شعبيّ البلدين، وهى حريصة على مصالح شعبها على الأقل. إن مراهنة قوى المعارضة على فشل الاتفاق كما راهنت من قبل على فشل المفاوضات، كما راهنت أيضاً قبل ذلك بسنوات على فشل إتفاقية السلام الشاملة 2005م هو تكرار مستمر ومتصل الأخطاء، إستراتيجية قاتلة. لقد آن الأوان لقوى المعارضة ان تخلع ثياب الكيد السياسي والغبن، وأن تلبس ثياباً وطنية نظيفة تضمن لها الحضور الدائم فى ذهن الناخب السوداني لكي يكون بوسعه ان يتصور – ولو لمرّة – أنها يمكن ان تصبح بديلاً. إن تصور المعارضة أنها تملك الخبرة والكياسة السياسية وأن كل ما تقوم به الحكومة السودانية هو محض هراء وأن لديها وحدها الحل الناجع هو دون أدني شك ضرب من النرجسية السياسية الخائبة، والتى لن تورثها إلاّ المزيد من الفاقة السياسية، والتشرد فى مكب النفايات ومجاري الفشل السياسي المظلمة!