تجاوز البلدان اللدودان، السودان وجنوب السودان، حد التوقعات بتوقيعهما على إتفاقية التعاون المشترك فى أصيل السابع والعشرين من سبتمبر 2012م. كانت التوقعات محلياً وإقليمياً ودولياً تأمل فقط، أن ينهي الجاران عراكهما المتبادل ولو فى حده الأدني بحلحة القضايا موضع النزاع بالوسائل السلمية لكي يحافظا على الاقل على إتفاقية السلام الشاملة الموقعة بينهما فى نيفاشا 2005م، والتى تعتبر تاريخياً الاتفاقية الأبعد أثراً فى تاريخ السودان والتى أنهت أطول حقبة تاريخية من الحرب الأهلية الضروس. البعض راهن على فشل الدولتين فى التوصل الى حل. وهناك بعض آخر راقت له فكرة إحتمال تدخل مجلس الأمن، بل إن بعض غلاة المعارضين السودانيين اقام كل تصوراته وأحلامه السياسية على فرضية فشل المفاوضات، وإنتقال الأمور الى مرحلة الفصل السابع. الوسطاء أنفسهم كان أقصي ما يرجونه أن تتحقق المعجزة ويتم الحصول على إتفاق بأىّ صورة من الصور حتى يبيِّضوا وجوههم دولياً ويتجاوز الجميع أخطار القرار 2046. لقد استغرقت عمليات التفاوض ما يجاوز العام من الجولات والجلسات المطولة بدون نتائج، وكان آخر ما تم التفكير فيه – عسي ولعل – أن تنعقد قمة مخصصة لقرارات حاسمة بين الرئيسين البشير وكير. وحتى حين إنعقدت القمة والكل ينظر ويترقب لم تكن الصورة كما كانت التوقعات إذ سرعان ما تأكد للجميع ان الأمر أعقد بكثير مما تصوروا، ومع ذلك لم تخبو الآمال ولا تراجعت الأمنيات. كان واضحاً ان الهوّة تمضي فى إتساع، فالملفات عديدة وشائكة والتنازلات صعبة وعصية، فكل طرف يخشي كل الخشية ان يلعنه شعبه جراء إفراطه فى التنازلات أو تفريطه فى الحقوق، وذلك ببساطة لأن الخلاف بين الدولتين خلاف مصنوع عملت على تأجيجه وتغذيته جهات وقوي دولية لصالح مصالحها الخاصة فقط، ولكي تحول دون إمكانية إلتقاء البلدين على محجّة من التعاون وحسن الجوار، فالبلدان كانا بلداً واحداً ومن الممكن ان يعودا كذلك من جديد، بل من الممكن ان يتحولا معاً رغم كل التباين الى مارد عملاق لا يردّه أحد من هؤلاء الصائدين فى مياه العلاقات العكرة بينهما. لقد قضي الرئيسان معاً خمسة أيام فاضت بالجولات والمحادثات الخلافية العاصفة، ولكن كان الأمر الغريب حقاً أنهما ورغم تباعد المواقف وإشتداد الخلاف أصرّا إصراراً شديداً على عدم العودة الى بلادهما بدون إتفاق ناجز. هذه الارادة الصلبة والرغبة فى الحل هى دون شك كانت الدافع المؤثر للوصول الى إتفاق تحوَّل جذرياً من مجرد اتفاق لحل خلافات الى اتفاق لتعاون مشترك. ولهذا فإن النظرة الصحيحة لما تم انجازه فى أديس أبابا فى السابع والعشرين من سبتمبر 2012 تقتضي قراءة الاتفاق على أنه إعادة للثقة بين البلدين ووضع حجر أساس لمستقبل مختلف كليةً عن ما مضي، وهو ما يؤرخ للإتفاق – رغم مخاوف الخلافات الكامنة فى التفاصيل والتطبيق – على أنه بداية وضع قاطرة العلاقات بين البلدين على القضبان لتمضي الى غاياتها. إن إتفاقية التعاون المشترك بين السودان وجنوب السودان جاءت على غير ما كان منتظراً، فهي أناخت إبل العراك فى صحراء جرداء بعيدة ثم سحبتها الى واحة خضراء وارفة يحفها الماء والشجر والحشائش الناعمة الندية. فالذي تم كان بداية لبناء علاقات قوية وراسخة بين البلدين لتصبح هذه العلاقات هى الأساس الذى تُبني عليه عمليات الحل مستقبلاً، ولهذا فإن كان لهذا الاتفاق من إيجابية واحدة، فهي ان الجانبين نزعا ثياب الخلافات وإرتديا حلة التعاون، والجوار الأخوي الآمن، وتبادلا لغة المصالح المشتركة. إن الاتفاقيات ال9 التى أسفرت عنها قمة أديس هى فى الواقع مجمل ما جادت به قريحة شعبيّ البلدين لوضع إطار عملي عام للمستقبل، فالمرونة على الحدود، وحركة البضائع والسلع واستقرار الحدود نفسها، ثم اتفاق الحريات الأربع وحق التنقل والتملك والإقامة ثم عودة ضخ النفط بكل ما تعنيه من عودة الحياة الى شرايين وأوردة البلدين، ثم قضايا الديون والترتيبات الأمنية التى تخلِّص الجانبين من إشكالات المكايدات السياسية . كل هذه البنود والملفات لا يوجد أصدق وأفضل منها للإنتقال الى آفاق أرحب، وهو ما يؤكد أن إجتياز البلدين لإمتحان تنفيذ هذه الاتفاقيات سيزيد من فرص حلحلة بقية القضايا المتمثلة فى النزاع على أبيي والحدود . لقد تحولت العلاقات السودانية الجنوبية بهذه المعاهدة الواقعية الرائعة من المعترك الى التعاون المشترك وتلك لعمري نقلة وعلامة فارقة!