التفاؤل المشوب بالحذر الذي توشحت به الخرطوم غداة توقيع السودان وجنوب السودان علي اتفاقية التعاون المشترك ربما كان مبعثه الخوف من أن يتكرر سيناريو التراجع والمراوغة الذي تمارسه جوبا(عادة) فكثيرة هي الاتفاقيات التي نقضتها حكومة الجنوب ولم تلتزم بتعهداتها خاصة تلك التي تأتي بالنفع للشمال، فالتجارب الواقعة عديدة وربما سببها ممارسة كثير من الضغوط من المعارضة الجنوبية او من بعض القبائل التي تسعي الي ان يكون أي اتفاق لصالحها وان كان الثمن استمرار الحرب بين الشمال والجنوب. والآن بدأت بوادر الرفض بل تعالت أصوات الاحتجاج بجوبا ليس فقط من المعارضة بل من داخل حكومة سلفاكير وجيشه الشعبي حيث تسربت بعض الأنباء من هناك أن المجموعة التي يتزعمها حاكم ولاية شمال بحر الغزال الفريق بول ولونق أعلنت رفضها (القاطع) للاتفاق الأمني خاصة الفقرة المتعلقة بمنطقة ال(14) ميل التي تعتبر أكثر البنود تعقيداً وأخذت وقتاً طويلاً في قمة البشير وسلفاكير ولم يتوقف هؤلاء عند الرفض فقط بل توعدت هذه المجموعة بقيادة عمل مضاد علي اعتبار ان هذه المنطقة تتبع لولاياتهم وسيدافعون عنها بحسب رؤيتهم. هذه الروح غير (الوفاقية) التي بدأت تسيطر علي الساحة السياسية بالجنوب ستزيد من مخاوف الخرطوم التي لم تعد قادرة علي تحمل أية(انتكاسات) من جوبا التي ظلت تقطف ثمار الاتفاقات السابقة دون أن تترك للخرطوم حتي الفتات وما يعزز مخاوف الشمال هروب أو اختفاء دينق الور منذ ما قبل التوقيع علي الاتفاق بسبب أن قضية أبيي لم تدرج في المفاوضات بالشكل الذي يريد ذهابه الي أمريكا (مغاضباً) قبل يوم التوقيع ربما كان لأجل الاستنجاد بالأمريكان أو كما يفعل قادة حكومة الجنوب كلما فشلوا في الوصول الي مبتغاهم سفر الور المفاجئ كان لغرض ممارسة المزيد من الضغط علي الشمال ما يتوقع ان تبدي الخرطوم مرونة خلال المفاوضات القادمة تجاه ملف أبيي المتنازع عليه علي الرغم من أن المنطقة هي داخل حدود 1956 ولكن حكومة الجنوب لا تعترف بتلك الحدود بينما في وقت سابق كانت المرجعية للتفاوض ولكن سلفاكير الذي يتحدث لقادة الشمال بلسان ولحكومته بلسان آخر جعل حسم قضية أبيي والملفات العالقة تراوح مكانها منذ ما قبل الانفصال وهذا ما زاد من مخاوف الخرطوم من أن تكون الاتفاقات الموقعة أخيرا حبراً علي ورق. مخاوف الشارع السوداني ستزداد حدتها كلما اتسعت الفترة الزمنية بين التوقيع علي الاتفاقيات والتنفيذ علي الواقع خاصة فيما يتعلق بفك الارتباط بما يسمي قطاع الشمال والحركات المتمردة والفرقتين التاسعة والعاشرة التابعتين للجيش الشعبي الموجودتين بجنوب كردفان فمن المهم تسريع الإجراءات في هذا الملف وتكوين الآلية التي أعلن عنها وزير الدفاع التي ستتولي تنفيذ هذا البند. لان تنفيذ هذا الأمر يعني وقف الحرب بجنوب كردفان والنيل الأزرق ومناطق دارفور التي ظلت مشتعلة خلال السنوات الماضية بدعم سخي من حكومة الجنوب واحسب أن الاحتفائية التي توشحت بها الخرطوم في استقبالها لرئيس الجمهورية بعد توقيعه علي الاتفاق كان بسبب فرحهم الاتفاق علي فك الارتباط الذي يعني إيقاف الحرب في تلك المناطق حرب ظل يكتوي بها كل الشعب السوداني لأنها أثرت علي معاشه واستقراره. الإسراع بإحالة هذه الاتفاقيات الي الواقع أمر مهم لنقطع الطريق أمام المراوغات التي ربما تمارسها جوبا علي الخرطوم خاصة فيما يتعلق بالبنود التي تأتي لصالح الشمال مراوغات بدأت سيناريوهاتها تلوح في الأفق تجسدت في انسحاب الور واحتجاجات حاكم ولاية شمال بحر الغزال.احتجاجات متوقع ان تتسع (رقعتها) ربما جعلت سلفاكير يتراجع عن ما وقع عليه خاصة وان قطاع الشمال لا يزال يحدوه الأمل في أن يستمر ارتباطه بالجنوب فعندما ذهب ياسر عرمان ومالك عقار الي أمريكا أثناء المفاوضات (مستنجدين) كان الغرض من الزيارة ممارسة الضغط علي وفد السودان المفاوض لعدم التمسك بفك الارتباط ولكن حكومة السودان لم ترضخ للضغوط ومضت حتي نهاية الشوط حينما توجت ذلك بتوقيع اتفاق ولكن ربما يذعن سلفاكير لرغبات هؤلاء إذا مارسوا الكثير من الضغوط في ظل توافق رغباتهم مع اللوبي الغربي الذي لا يرضي للسودان استقرار. مخاوف عدم صمود الاتفاقية ربما يأتي أيضا من عدم ترحيب الكثيرين في جوبا لجهة أنها لم تخاطب أشواقهم بحسب زعمهم وان سلفاكير قدم تنازلات اعتبروها غير مبررة ما يجعل تكهنات المواجهة العسكرية بين فصائل الجنوب تسيطر علي الساحة السياسية هناك لذا فمن الأوفق أن يبدأ الطرفان في وضع آليات التنفيذ علي الواقع لقطع الطريق أمام أية تراجعات عن الاتفاق خاصة فيما يتعلق بالترتيبات الأمنية التي تعتبر رأس الرمح الذي يمهد الطريق لإنفاذ بنود الاتفاق الأخرى. ولكي يتيقن (كل)الشعب السوداني أن اتفاقية التعاون المشترك جاءت لصالحه ينبغي أن نبث الطمأنينة في نفسه بأن نقدم علي تنفيذ خطوات فعلية لبنود الاتفاقية، خطوات يشعر بها المواطن ويتذوق طعمها أولها استتباب الأمن في مناطق الحروب والنزاعات وان يأمن مواطنو جنوب كردفان والنيل الأزرق اعتداءات المتمردين و(ينسوا) قعقعات السلاح التي كثيراً ما روعتهم وأقلقت مضاجعهم. وثانيها تامين الحدود بين البلدين لان بسط الأمن يعني الاستقرار ويعني الطمأنينة ويعني التعايش السلمي بين القبائل التي تعيش في المناطق المتاخمة للحدود ويعني قبل ذلك كله وقف الحرب وبالتالي وقف نزيف الصرف علي الاعتداءات علي الأراضي السودانية. عموماً الأمر يحتاج الي إرادة سياسية قوية لتتنزل بنود الاتفاقية برداً وسلاماً علي شعب السودان دون أن يدفع مرة أخري ضريبة التنازل والتراخي في تنفيذ ما اتفق عليه وان كانت بعض الاتفاقيات كالحريات الأربع يتحفظ عليها الكثيرون ولكن ربما يتحول هذا التحفظ الي تأييد إذا ما نفذت بنود الترتيبات الأمنية وفك الارتباط علي النحو الذي جاء بالاتفاقية. نقلا عن صحيفة الرأي العام3/10/2012