من المؤكد أن التبروء من شيء، دافعه الأساسي فى العادة سوء ذلك الشيء وإحتواؤه على أمور لا يريدها ولا يحتملها المتبرئ. ليس هناك تبرؤاً هكذا لمجرد التبروء. وقد تلاحظ مؤخراً ان بعض القوى السياسية المعارضة بذلت جهداً للتبروء من وثيقة إعادة هيكلة الدولة السودانية التى أخرجتها ما يسمي بالجبهة الثورية . وربما بدا -سياسياً- ان تبروء هذه القوى من الوثيقة ووجود بيان بهذا الصدد – كافٍ للطمأنة والتخلص من تبعات ما جري وكافٍ لإرضاء عضوية الحزب نفسها التى تري أمامها عملاً لم تشارك فيه عملياً و يُزج بإسمها فيه. غير أن النظرة الفاحصة لملابسات الموضوع تعطي نتائجاً مغايرة تماماً، ففي البدء لم تكن هناك حاجة أصلاً لحزب مثل حزب الأمة القومي مثلاً لإصدار بيان يدفع عنه تبعات الوثيقة ويتبرأ منها لو أنه – أىّ حزب الأمة القومي - ومنذ بداية إلتحاق منسوبه نصر الدين الهادي - بالثورية إتخذ موقفاً حاسماً وحازماً بوضع سياج عازل متين بينه وبين القيادي نصرالدين لا يتطرق إليه أدني شك. هناك فقط بعض التبريرات المتحزلقة التى لا تغني ولا تسمن من جوع ولا ترتقي لمصاف التعامل مع قيادي يشغل منصباً قيادياً رفيعاً فى الحزب. وللتذكير فنحن هنا لسنا بصدد معاتبة الحزب أو تجريمه حيال الوثيقة ففي النهاية من حق أيّ مجموعة سياسية أو مسلحة أن تفرد أشرعة الحلم والأمنيات كيفما تشاء لأن العبرة فى العمل سياسي دائماً بالواقع العملي والإرادة القادرة. ولكن تبروء الحزب المتكرر من كل ما يحدث جراء إستمرار القيادي بالحزب فى فعاليات الثورية يثير التساؤل عن (كراهية الحزب) أو محاولته التظاهر بكراهية مصطنعة حيال ما يصدر عن الثورية، أو مخافة أن يتحمّل تبعات شاقة فى مواجهة السلطة الحاكمة هو الذى يجعلنا نغوص عميقاً فى الموضوع وهو ما يحتاج لإجلاء وتوضيح مقنع من قيادة الحزب. فالملاحظ هنا ان الحزب يضطر للتبروء بعد إنعقاد الاجتماعات وظهور المخرجات والنتائج، فهو بهذه المثابة إما أنه غير قادر على المتابعة المسبقة وهذا دون شك قصور سياسي مريع ؛ أو أنه مدرك لما يدور لكل التفاصيل، وينتظر حتى تخرج هذه المخرجات ثم يتبرأ منها، وفى الحالة الاخيرة فإن ردة فعله لن تكون مجدية بإعتبار أن (الفأس قد وقع فى الرأس) وفى الحالة الاولي فقد كان الأوفق أن يستبق الأمور بموقف ما، يجعل موقفه معارضاً للأمر. الأمر الثاني أنّ الحزب وقد فشل فشلاً ذريعاً -كما فى أمور تنظيمية أخري- فى التخلص من (قياديه المتمرد)، فقد كان عليه ان يتخذ قراراً حازماً من أجهزة الحزب يلقي عنه عبء التبروء المتواصل، فهو بهذه الحالة يمكن ان يتخلص من الموقف برمّته، لا أن يبدو كمن يرفض موقف أو يغض الطرف عن آخر بحسب ما يوافق هواه السياسي . الأمر الثالث، إن أدبيات الحزب فى الوثيقة موجودة بطريقة أو بأخري فى متن الوثيقة وإن جرت تعميتها بوسائل مختلفة بغية إحكام التمويه والتعمية، وهو أمر من المستحيل أن يفوت على فطنة كل من يعرف أدبيات حزب الأمة القومي ورؤاه وأفكاره. الفارق الوحيد هنا، وضع هذه الأفكار فى قالب متخفّي قليلاً لإرضاء الثورية من جانب، وعدم الإنكشاف أمام الآخرين من خارج الثورية من جانب آخر . وأخيراً فإن من المستحيل ان نتصور إمضاء وتوقيع قيادي مرموق من الحزب على وثيقة كهذه بصفته الحزبية دون أن يكون هذا القيادي يستشعر (سنداً ما) من جهة ما داخل الحزب ولو لحزب الأمة دليلاً على ما يخالف ذلك فليقله وفق المنطق القومي والتقديرات الثورية وليس مجرد القول المرسل. وهكذا، يمكن القول إن وثيقة الثورية وعلى بؤس ما ورد فيها والكم الهائل من التناقضات الواردة فيها تظل وثيقة مرتبطة بمن تبرءوا منها مهما حاولوا إثبات العكس!