ربما كانت مفردة الخسارة تطلق في العادة على من لديه شيء ذو قيمة وفقده أو كانت لديه أرباح متوقعة ولكنها - لسبب أو لآخر - لم تتحقق. ولكن الأمر بالنسبة للأحزاب السودانية المعارضة مختلف، إذ أننا ومهما كنا منصفِين وتحرّينا الموضوعية لن نستطيع تحديد قيمة سياسية معقولة لها، أو نحدد شيئاً ذو قيمة تملكه حتى تقول أنها وعقب مأزق الفجر الجديد خسرت. ولكن ورغماً عن كل ذلك دعونا نفترض أنها أحزاباً سياسية ما تزال تحتفظ بذات بريقها الخالب للألباب فى زمانها الغابر وفق ما درجت على الافتخار به في (آخر تعددية) فى ثمانينات القرن الماضي؛ أو أن قدراً معتبراً من الناخبين السودانيين فى الوقت الراهن راهنوا عليها وقرروا منحها ثقتهم فى الاستحقاق الانتخابي المرتقب بعد عام أو يزيد قليلاً؛ هل شكلت ملابسات وثيقة الفجر الجديد خسارة لها؟ من المؤكد أنها فعلت وإلى درجة لم يكن الوطني نفسه يتوقعها. أولاً: أظهرت الوثيقة أن هذه الأحزاب ليست ضعيفة فحسب، ولكنها مغلوبة على أمرها فى مواجهة حفنة من حملة السلاح المرتبطين بأجندة أجنبية والمتحلِّلين من أيّ قيم سودانية ولا نقول قيم دينية. ففي الوقت الذى حضر عنها مندوبون هناك فى كمبالا ووقعوا على الوثيقة، لم تتحلَّ هذه الأحزاب بالشجاعة السياسية الكافية للإقرار بها ولو في حدود قيم (الإنسان السوداني العادي) الذي لا يهرب من ميدان المعركة ولو تم تمزيقه إرباً. أمر مؤسف؛ حزب مثل حزب الأمة القومي يفاخر بموقعة كرري وكيف تصدّى الأنصار يومها - بالمئات- لأفواه المدافع الكاسرة ليموتوا من أجل مبدأ، يعود على أخريات الزمن، وفي هوامش التاريخ ليتهرّب مما اقترفته يداه! حزب يقف مواقف فيها كل هذا الجبن وصعوبة احتمال مسئولية الأفعال والمواقف لن يغامر ناخب سوداني مهما كان ساذجاً وبسيطاً فى أن يعهد إليه بثقته ويمنحه صوته، فالمفارقة هنا أن الحزب لا هو أقرّ بما فعل وبدا شجاعاً ونجح فى تبرير فعلته، ولا هو رفض الأمر منذ البداية وانتصر لمبادئه. ذات الشيء يمكن مقايسته بشأن الشعبي والشيوعي وبقية (العقد الفريد حقاً). أحزاب تفعل ما تتمناه ليلاً وفي الغرف المغلقة، وتتنصل منه نهاراً في الهواء الطلق. هذه ليست من شيم السودانيين ولو كان صحيحاً أنها لم توافق لأخرجت بيانات واضحة وقاطعة واتخذت موقفاً من الثورية وفصلت ممثليها الموقعين على الوثيقة لأنه لا توجد مبررات فصل واضحة في أيّ لائحة تنظيمية في أي حزب من الأحزاب -يميناً ويساراً- أكثر من تجاوز الصلاحيات ومخالفة مقتضي التفويض. هي أحزاب غير مسئولة، لا في إدارتها لرؤاها ومواقفها، ولا في وضع الاعتبار للمواطنين السودانيين ولا في احترام عقولهم. ثانياً: خسرت هذه الأحزاب أيضاً –مع كونها خسارة جانبية– حلفائها فى الثورية، فقد أوفدت ممثليها ووقعوا على ما وقعوا ثم جاءت وتنصلت منهم، ومن ثم فإن هناك استحالة فى إمكانية عودة الثقة بين الطرفين مستقبلاً، وربما أراد قادة الثورية وضعها فى هذا المأزق التاريخي ليصبح (نقطة سوداء) فى المستقبل تظل هذه الحركات تعاير بها الأحزاب المعارضة، ولا غرو فقد تخادع الطرفين خداعاً فريداً من نوعه يكفي لقطع حبال الثقة المفترضة فيما بينها. ثالثاً: خسرت هذه الأحزاب المعارضة، الحزب الوطني الذي لن يتيح لها الفرصة في أيّ منافسة قادمة فى الاستحقاق الانتخابي لكي تتحالف معه – إذا احتاجت – وهي لا محالة محتاجة لتحالفات بعدما جرّبت تحالفها مع بعضها ففشل، وجربت تحالفها مع القوى المسلحة وهو الآن دخل نفقاً مظلماً. والخسارة الأكثر أثراً سوف تبلغ ذروتها حين يطلب منها الوطني فى أي تفاهم مقبل معها التبرؤ من الثورية ووثيقة الفجر الجديد تبرؤاً قد يصل الى درجة (الملاعنة) المعروفة فى أحكام الشريعة الإسلامية بما فيها من قسم غليظ واختبار شديد للمصداقية. لقد كان الوطني متاحاً وأقرب الى هذه القوى إن كانت تنظر الى المستقبل الحقيقي فهي ما تزال فى حلبة التنافس بوسعها دخول الحلبة بمعطيات معقولة ولكنها تعجّلت. وكما سبق للمهدي أن وصف رفقائه الذين انسخلوا من حزبه بقيادة مبارك الفاضل فى العام 2000 (تعجلوا وكذّبوا الخريف وأكلوا التيراب)!