السياسيون، فرادى وأحزاباً، عادة ما يقعون في حيرة لدى محاولتهم اتخاذ مواقف تزاوج بين التكتيكي والاستراتيجي، لأنه إذا كانت السيادة للأول لن تصل العملية النضالية إلى الهدف، بل ستبقى تسبح في بحر التفاصيل الصغيرة . وإذا كانت السيادة للثاني يصبح كشجرة بلا ساق، والنتيجة إحباطات متتالية . في اجتراح السياسة على نحو علمي غير براغماتي، يكون التكتيكي خادماً للاستراتيجي من حيث كون الطريق إلى الهدف معبّداً بقرارات وخطوات تكتيكية تراكمية . وحسب التجارب التاريخية، تلعب الأيديولوجيا العامل المحرّك لصياغة العلاقة بين طرفي المعادلة . هناك قيادات سياسية، وفي إطار تداول السلطة، تغلّب التكتيكي على قراراتها وبخاصة عندما تكون في العد العكسي لانتهاء إشغالها المناصب العامة، وهذا نموذج لسياسة بلا نفس نضالي مؤدلج، ذلك أن الحالة النضالية تقتضي انتزاع الموقف من براثن الدراسة العميقة والدقيقة والعلمية للظروف الذاتية والموضوعية وموازين القوى، على قاعدة »لا مساومة على الأهداف الاستراتيجية« . الرئيس الأسبق لجهاز المخابرات »الإسرائيلية« (موساد) إفرايم هليفي، يدعو إلى فتح حوار مع إيران باعتبار »أن الإيرانيين يريدون الخروج من الورطة«، كما يرى . هليفي الذي استقال من منصب رئيس »الموساد« بين عامي 1998-2003 بعد فشل جهازه في محاولة اغتيال زعيم حركة »حماس« خالد مشعل في عمّان، خرج بمعادلة تنطوي على كثير من البراغماتية، فهو يقول عن الإيرانيين »إذا تحدثت معهم ستمنحهم شرعية، ولكن عندما لا تتحدث معهم لا تحوّلهم إلى غير شرعيين« . لكن ليست الفكرة الرئيسة كامنة هنا، حيث أصبح الملف النووي الإيراني مسألة يومية في السياسة الدولية، إنما اللافت في كلام هليفي والذي يرتبط بمعادلة »التكتيكي والاستراتيجي«، هو تذكيره زملاءه في القيادة »الإسرائيلية« بأن المشروع النووي الإيراني ليس وليد النظام الإسلامي، بل نتاج سياسة بدأت في عهد نظام الشاه الذي ارتبط بعلاقات صداقة متينة مع »إسرائيل« . ومن هنا تنطلق المفارقة حين يقول إن »إسرائيل« حاولت إقناع شاه إيران ببناء مفاعل نووي، بغض النظر إذا كانت »إسرائيل« ساعدت إيران على تطوير المشروع النووي أو أشعلت في رأسها الفكرة والرغبة . هل كان على قادة »إسرائيل« أن يتوقّعوا اندلاع ثورة في إيران تطيح نظاماً صديقاً وتأتي بنظام معاد؟ . . ليس بالضرورة أن يؤخذ التوقّع بتفاصيله بل بخطوطه العامة التي يقول أحدها إنه ليست هناك في السياسة صداقة دائمة وعداوة دائمة . فلو استخدمت قيادة »إسرائيل« خلايا التفكير الاستراتيجي في عقلها لما دفعت باتجاه قرار ستعانيه مستقبلاً حين يرقى إلى مستوى التهديد الوجودي بنظرها . ومثلما ذكّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين القيادة الأمريكية بأن من تدعمهم اليوم قد يهاجمونها غداً، بعد يومين أو ثلاثة حدث هجوم بنغازي، فيما تبقى قضية تبني ودعم المقاتلين ضد الوجود السوفييتي في أفغانستان في الثمانينات، درساً دموياً قاسياً لا يتعلّم منه أصحاب النظر التكتيكي، فهم أبناء اليوم ولا توجد آلية تأتي بهم من منتجعاتهم الصيفية والشتوية لتحاسبهم على كوارث نتجت عن سياسات نثروا بذورها في عهدهم، وجاء حصادها وبالاً في عهد غيرهم . الآن يجري جدل ساخن في »إسرائيل« بين عسكريين لا يرون جدوى من مهاجمة إيران، لأن من شأن هكذا ضربة أن تدفع إيران إلى استغلال هذا التطور والإسراع في صنع القنبلة، وسياسيين متحفزين للضغط على الزر العسكري . ومن الكارثي أن يكون مصير المنطقة وشعوبها معلّقاً على جدل »إسرائيلي« تقف منه واشنطن موقف ضابط الإيقاع، لأنه إذا تركت الأمور رهناً بجدل تحتكره مجموعة في زاوية المشهد، سيفلت الإيقاع من اليدين وينتقل إلى كف عفريت . المصدر: الخليج الاماراتية 24/10/2012م