رغم كل الخلاف المتصاعد هنا وهناك حول الكيفية التى على أساسها سيتم حل الأزمة فى أبيي وحسم تبعيتها، ورغم بعض الهواجس من الكثير من المشفقين وأبرزها مخاوف قبائل المسيرية، إلاّ أن العديد من المؤشرت الموضوعية المستخلصة من ملف الأزمة وسطور التاريخ تشير الى إستحالة تبعية المنطقة الى دولة جنوب السودان سواء عبر إستفتاء - أياً كانت شروطه وإجراءاته - أو عبر قرار دولي -أياً كانت حيثياته ومسبِّباته- أو عبر تنازلات متبادلة بين طرفيّ التفاوض. فلو تأملنا بداية فى آلية الاستفتاء وهى الأرجح لحل النزاع مهما قيل من مقترحات قُدمت لمجلس السلم الافريقي من جانب الوسيط أمبيكي؛ فإن أحداً لا يمكنه إجراء استفتاء لأهل المنطقة بمعزل عن قبائل المسيرية بصرف النظر عن شروط مشاركتهم، وحتى لو كانت هذه الشروط فيها قدر من الإجحاف، ذلك أن أقصي قدر من الإجحاف يمكن أن يطال قبائل المسرية هو فى تحديد سنوات الاقامة. وحتى مع هذا الشرط فإن قبائل المسيرية لن تتأثر سلباً بهذا الشرط، ولمن شاء أن يستوثق فليرجع الى الوقائع على الارض وليرى حجم التداخل الهائل بين قبيلتيّ دينكا نقوك والمسيرية، ذلك التداخل الذى كان ثمرته - على الاقل - القيادي دينق ألور، الذى يؤكد أعيان المنطقة أنه تعبير عن ذلك التداخل، مهما تنكر الرجل ولبس ملبساً آخر مختلفاً. وفيما يخص الاستفتاء أيضاً فإن مفوضية الاستفتاء حتى ولو ترأسها طرف آخر غير الجانب السوداني – مع أن الأولوية والأحقية للجانب السوداني – فهى لن تؤثر على مجمل الموقف بحال من الاحوال، فى ظل وجود رقابة صارمة من قبائل المسيرية ومن الجانب الحكومي. فالمناط فى الأمر كله، أن الحق ناطقٌ بفصاحة شديدة في ما يخص حقوق السودان على هذه المنطقة الحيوية لدرجة أن (50%) وفق متابعاتنا اللصيقة والدؤوبة من دينكا نقوك أنفسهم ينوون التصويت لصالح تبعية المنطقة لدولة السودان، وبالطبع ليس نكايةً فى دولة جنوب السودان ولا رفضاً للإنضمام لها، ولكن لأنهم يعتقدون إعتقاداً جازماً أن الطريقة المثلى الوحيدة للمحافظة على حياتهم ونسيج بقائهم الحالي هو بأن يكونوا ضمن حدود السودان. ولمن لا يعرف هنا، فإن دينكا نقوك يتخوّفون من مشاركة قبائل أخري لهم فى المنطقة حال تبعيتها لدولة جنوب السودان حتى ولو كانت تلك القبائل من الدينكا، إذ سوف يتسبّب ذلك عاجلاً أم آجلاً فى فقدانهم لإمتيازاتهم التاريخية. كما أن المنطقة تحوي موارداً نفطية ربما تفكر الحكومة الجنوبية فى منحها لشركات أجنبية تعمل على مضايقتهم أو حتى ترحيلهم منها. الأزمة إذن ليست – من الناحية الواقعية – فى شروط الاستفتاء وإجراءاته، ولكن مخاوف الحركة الشعبية الحاكمة فى الجنوب تنصب على خوفهم من توجهات ونوايا دينكا نقوك، وهذا ما ظل يجعل قادة الحركة الشعبية يفضلون حلاً عن طريق الصفقة مع الحكومة السودانية أو عن طريق فرض التقسيم بالقوة بقرار دولي، أو حتى عبر الطريق العسكري. لقد كان خير مثال ودليل على ذلك تصريحات إدوارد لينو الأخيرة والتى قال فيها إن بلاده تستعد لجعل أبيي الولاية رقم (11)! لينو المعروف بولعه بالحروب -وله تجربة فى أبيي- يرسل تهديدات مقصودة بالحرب لإخافة دينكا نقوك والتلويح بأنهم يمكن أن يحرقوا المنطقة بمن فيها. هدف لينو تكتيكيّ تخويفي لا أكثر ولا أقل. أما من ناحية إمكانية فرض حل دولي بقرار من مجلس الأمن فإن هذا يبدو صعباً إن لم يكن مستحيلاً، وذلك – ببساطة – لأنه لا يضع حداً نهائياً وعملياً للنزاع. لا يمكن لقرار دولي صادر عن مجلس الأمن أن يقرر تبعية المنطقة شمالاً أو جنوباً. القرار يمكن أن يحدد أُطر وقواعد عملية الاستفتاء والجهة المراقِبة، وكل هذه أمور يمكن أن تتم ولكنها لن تؤثر –عملياً– على جوهر الاجراءات والنتائج، اللهمّ إلاّ إن أقرَّ مجلس الأمن رسمياً (عملية تزوير) صريحة فى الاستفتاء! وأخيراً فإن الحكومة السودانية هى الأخرى –ومن الناحية العملية البحتة– لا تستطيع ومهما تساهلت لهذا السبب أو ذاك ان تقدم تنازلات فى أبيي، ففضلاً عن الأسباب السياسية والتاريخية الخطيرة جداً فهناك دون شك حسابات غاية فى التعقيد تجعلها لا تفكر ولو للحظة فى أمرٍ كهذا، وعلى ذلك فإن أبيي – طال الزمن أو قصر – ستظل تابعة رسمياً للسودان.