بعد فشل كل محاولات الدول الغربية لا سيما الولاياتالمتحدة وفرنسا وبريطانيا فى تركيز الأضواء بشكل كامل علي الاوضاع الانسانية فى ولاية جنوب كرفان سعياً منها لفعل ذات الشيء الذى فعلته قبل سنوات فى دارفور، بحيث يبيت ويصبح العالم على نغمة تردِّي الاوضاع الانسانية وغياب الأمن واستهداف المدنيين، فإن خطة اسعافية جرى إستحداثها، لتعميق سوء الأوضاع هناك. الخطة بدت لواضعيها فى غاية البساطة وهى أن تقوم عناصر من متمردي قطاع الشمال – لا يعدون على اصابع اليد الواحدة – بتوجيه ضربات ساخنة براجمات تحمل صواريخ الكاتيوشا المعروفة، قصيرة المدى على مدينة مؤثرة فى الولاية ووقع الاختيار على حاضرة الولاية كادوقلي. ضربات الكاتيوشا أريد لها ان تحقق مزايا عدة وفق ما أدلى به أحد الجنود العائدين مؤخراً من قوات قطاع الشمال. أولى هذه المزايا، أن تكون ذات صوت يثير الذعر وسط المدنيين فيضطروا على الفور لمبارحة مساكنهم ومدنهم فى موجة نزوح ولجوء تحقق واحدة من أهم أهداف العملية وهى إقامة معسكرات نازحين ولاجئين لاستخدامها فى عرض الاوضاع الانسانية وتصويرها، والاستفادة منها فى الحملة الدعائية المطلوبة فى هذا الصدد. أما ثاني المزايا المطلوبة، فهى مضايقة السلطات الحكومية الى أقصى درجة، بحيث تضطر الحكومة للمسارعة بالجلوس للتفاوض مع القطاع – تحت هدير القصف والمدافع والدانات – وهى تحقق للمتمردين – بحسب تقديراتهم – مزايا التفاوض الجديد الذى يأتي لهم بالمكاسب السياسية الأفضل، والتى ما كانوا ليجدونها لو أنهم جلسوا للتفاوض بظروفهم ومعطياتهم الحالية. ويبدو أن هذا الهدف جاء وليد (نصيحة سياسة) قدمها خبراء أجانب لقادة القطاع فحواها أن المفاوضات بينهم وبين الحكومة السودانية لن تحقق لهم ما يريدونه ما لم يكونوا مؤثرين ميدانياً، ولهم أصوات عالية تخرج من فوهات المدافع. ثالث المزايا ان تجري محاولة لاحتلال كادوقلي أو تلودي بإعتبارهما مدينتين هامّتين تتيح للقطاع تقوية نفسه والتمترس خلف المدنيين وإعاقة تقدم الجيش السوداني، وهذه المزيّة مرتبطة بهدف خفيّ يتمثل فى إعلان استقلال المنطقة كنوع من المساومة التاريخية ووضع الحكومة السودانية أمام فرضية الأمر الواقع . ولا يُستبعد فى هذا الصدد -وفق معلومات مؤكدة- ان يكون لبعض قادة القطاع – أمثال الحلو – هدف إعلان دولة فى المنطقة، لتشتيت الذهن السياسي السوداني وإضعاف الموقف الحكومي العام لأقصى درجة. وهكذا إذن دخلت الكاتيوشا عنصراً فى تعقيد الأوضاع فى الولاية ولكن لسوء الحظ لم تنجح العملية، فعلي كثرة الضربات التى تمت والتى استهدفت الأسواق والأحياء ومناطق الكثافة السكانية، إلاّ أن العدد الذى فضل النزوح ليس كافياً للمتمردين وواضعي الخطة لاستخدامه فى ما هو مطلوب، وقد أعاقت سلطات الولاية -بعد إدراكها المسبق بهذا الهدف- تحقُّق هذا الجانب المهم بالنسبة للتمردين. حكومة الولاية نجحت فى توعية مواطني المنطقة بأساليب شتي أن المقصود هو إخراجهم من مدنهم وبيوتهم لوضعهم فى معسكرات وتصويرهم فى معرض بشري مخجل، حدث من قبل فى أنحاء عديدة من دارفور وجرى استخدامه فى دعاية صهيونية تم الاعداد لها جيداً. ولهذا حرص والي الولاية احمد هارون فى التأكيد على ان سيناريو دارفور لن يتكرر فى ولاية جنوب كردفان، وهى اشارة أشاعت إحباطاً واسع النطاق فى صفوف المتمردين لكونها كشفت كل تفاصيل الخطة التى جرى وضعها بعناية ولم يكونوا يتوقعون أنها سوف تنكشف فى هذه المرحلة المبكرة، قبل ان تجد طريقها وحظها الكامل من التنفيذ على الارض. إن من المفروغ منه ان ما عانت منه الحكومة السودانية فى إقليم دارفور من قبل ولا تزال تتعاني من آثاره وتداعياته، لن يكون من السهل تكراره فى منطقة أخرى من السودان، فالحكومات إنما وجدت لأخذ دروس التاريخ وعبره وعظاته وعدم الوقوع فيما سبق الوقوع فيه؛ كما أن مثل هذه اللعبة ذات الطابع الاستخباري استنفذت كل عناصرها منذ ان نُفذت لأول مرة ولآخر مرة فى دارفور . إن جنوب كردفان فى الواقع لا تعاني من قضايا تخص مواطنيها بمعزل عن بقية سائر اقاليم السودان، ولكن الذى يجري فيها الآن هو عمل حربي ذي طابع عدواني ليس لصالح مواطني المنطقة بقدر ما هو لصالح أفراد بعينهم يعملون لصالح دولة مجاورة. ولهذا فإن من الصعب إن لم يكن من المستحيل ان تسمح الحكومة السودانية للتاريخ ان يعيد نفسه فى جنوب كردفان!