لشهر أو لما يزيد عن الشهر مارس ما يسمى بقطاع الشمال أسلوباً جديداً ربما أعتقد أنه يقصِّر له مسافة وصوله لهدفه. فقد وجّه عشرات القذائف بمدافع الكاتيوشا الى أهداف مدنية وأخرى عشوائية فى مدينة كادوقلي. القذائف حصدت أرواح الأبرياء ولكنها لم تزد على ذلك، فلا هي أخافت الجيش السوداني وجعلته يتراجع، ولا هي فتحت الطريق سالكاً لمُطلقيّ القذائف ليدخلوا كادوقلي فاتحين، ولا هي أيضاً أزعجت الحكومة السودانية وجعلتها تهرع مذعورة لمفاوضة القطاع . أيّاً من هذه الأهداف سواء كانت معلنة أو غير معلنة لم يتحقق، ذلك أن القطاع ومهما بدا أنه يغيِّر فى الوسائل والأساليب هو فى النهاية مجرد قطاع لا نغالي إن قلنا أنه يشبه جزء من (القطيع) الذى إذا فقد أثر القطيع ظل يجأر بالصراخ باحثاً عن مأوى أو مهرب. إن واحدة من أكبر أزمات القطاع أنه بلا وزن سياسي، فهو لا يتعدّى أصابع اليد الواحدة، فقط استفاد من زخم الدعم الجنوبي وزخم الفرقتين 9 و 10، ولهذا فإن من الطبيعي وهو بهذه الحال أن يبدأ من الصفر فى محاولة يائسة لصناعة جيش شعبي جديد وسلاح مؤثر جديد وعمليات عسكرية تحدث صديً واسع النطاق. من سوء حظ القطاع أنه بدأ بإنتاج نفسه بعد فوات الأوان، فقد تجاوز السودان اللعبة القديمة بقيام متمردين بتكوين فصيل عسكري بدون رؤى وبدون أهداف والقيام بعمليات نوعية مؤثرة وسط المدنيين حتى يصبح له شأن وصيت وتضطر الحكومة للتفاوض معه مرغمة. هذه الاسطوانة كانت رائجة فى السابق، قبل ان يبدأ السودان بالتشكُّل وتلمُّس طريقه وبلورة حاضره ومستقبله. ولعل الشيء الغريب ان ما يسمى بقطاع الشمال ومع إدراكه لاستحالة فرض وزنه السياسي هذا بالاسناد العسكري، غامرَ ودخل فى هذه الحلبة الصعبة واضطر لخسارة أهل جنوب كردفان الذين روُّعوا بمدافعه الموجهة الى نسائهم وأطفالهم . خسر القطاع ولاية جنوب كردفان بجدارة وهو يضرب عمقها فى كادوقلي، يقتل أبناء النوبة ويقلق منامهم ويقلب حياتهم الى عناء كانوا يعتقدون أنهم تجاوزوه! لقد كان من الممكن لو أن القطاع يجيد فهم الأمور ويجيد اللعب السياسي أن تمضي المفاوضات فى أديس أبابا بتويرة افضل، وكان من الممكن ان يحقق القطاع – فى حدود وزنه وليس بما يتوهمه – قدراً لا بأس به من النجاح النسبيّ فى ضمان وجوده فى الساحة السياسية تكفيراً عن خطئه القاتل بشنِّ حرب فى توقيت قاتل، وبفقدانه وخسارته لولايتين كانتا تدينان له بشيء من الولاء. إن من المحتم على من فقد ولايتين هامتين نتيجة لرعونته وسوء تقديره، أن تتضاعف لديه الخسارة اذا ما عاد من جديد لذات الرعونة العسكرية ظناً منه أنه يستطيع إعادة نفسه الى الواجهة السياسية فقط إعتماداً على قذائف مدفعية لا تسمن ولا تغني من جوع ! إن القطاع وعلى العكس مما يتصور تماماً، فقد شيئاً فشيئاً حتى السند الخارجي المتغطِّي ببعض المسوح الانسانية، فالمدافع التى يطلقها بإتجاه المدنيين الآمنين من المؤكد أنها باتت مصدر قلق للبعض فى الخارج كونها تشكل جرائم حرب واضحة ولا مجال للمغالطة بشأنها. وعلى جانب الحكومة السودانية فإن القدر ساق لها فرصة ذهبية لترفض التفاوض مع القطاع – وهى أصلاً كارهة للتفاوض معه – إلاّ اذا تخلىّ عن أسلوب المواجهة العسكرية الجبانة بإطلاقه للقذائف متستِّراً وراء الجبال والوهاد. لقد خسر القطاع ما فى ذلك شك هذه الجولة ولم يعد من مجال لتعديل الخطة، فالحكومة الجنوبية مرغمة لرفع يدها عنه عاجلاً أم آجلاً وهى متلهفة لإعادة تدفق النفط للتصدير بإنقضاء الشهر الحالي ولا مجال للتراجع عن ذلك، وهذا ما يجعل من مستقبل القطاع ألا يتعدىّ فى أحسن الأحوال قُطّاع الطرق وقراصنة الجبال والأودية الموتورين!