يبالغ البعض غاية المبالغة حين يتعلق الأمر بالعلاقات السودانية الجنوبية ويبالغون أكثر كلما تعلق الأمر بإتفاقية التعاون المشترك المبرمة بينهما فى السابع والعشرين من سبتمبر الماضي، حتى ليبدو أن هنالك من يتمنى إنهيار هذه الإتفاقية، أو تعثُّرها الى الأبد لكون مترتباتها ونتائجها جاءت خصماً على مصالحهم. إتفاقية التعاون المشترك ومهما قيل عنها هى السبيل الاستراتيجي الوحيد الذى أمكن فتحه لإنسياب العلاقة بين دولتيّ السودان وجنوب السودان وهى فى مضمونها تلخِص بإيجاز ضرورات التعاون بين الدولتين ووضع مصالحهما المشتركة فى مقدمة نظرهما الاستراتيجيّ، حيث لا مجال لأيّ تلاعب بهذه المصالح طالما أنهما ينشدان النهضة والسير الى الامام . كل الذى حدث حتى الآن ان الجانب السوداني طالب بإعطاء الملف الأمني الأولوية فى التطبيق، وقد أشار الدكتور عوض الجاز وزير النفط السوداني عند إلتقائه بوكيل وزارة النفط الجنوبية، (مشار اشيك مدير) الاسبوع ما قبل الماضي الى هذه النقطة الجوهرية. وكان واضحاً أن د. الجاز يتساءل ضمنياً عن السبب وراء عرقلة عمل اللجنة الأمنية التى سبق وأن عقدت أول إجتماع لها فى العاصمة الجنوبيةجوبا منتصف الشهر الجاري، وهى اللجنة المناط بها وضع إتفاق الترتيبات الأمنية على الارض بالشروع فى تحديد المنطقة العازلة المنزوعة السلاح على حدود الدولتين لمسافة 10 كلم، وفك الارتباط بين الجيش الشعبي الجنوبي وقطاع الشمال فى المنطقتين (جنوب كردفان والنيل الازرق) . ولعل الأمر بداغريباً فعلاً أن تُولي جوبا إهتماماً بالغاً بعملية إعادة ضخ النفط فقط وتتجاهل أو تعرقل بدون اسباب واضحة بقية الملفات! إن من المعروف ان الملف الأمني يكتسب أهميته من أنه يفتح باباً واسعاً للإستقرار بين الدولتين، وهو وحده الكفيل بحلحلة بقية الملفات والسماح بإعادة ضخ النفط دون مشاكل. لم تكن اتفاقية التعاون المشترك تهدف فقط الى معالجة قضية النفط على الرغم من أهمية هذا الملف وحيويته؛ كما لم تكن تهدف الى معالجة ملف القضايا العالقة على طريقة القطعة قطعة، فهي إتفاقية شاملة هدفها الأساسي كما قال بذلك زعيميّ الدولتين فى قمتهما فى أديس أبابا أواخر سبتمبر الماضي هو إعادة العلاقات بين الدولتين الى مجراها الطبيعي كعلاقات حسن جوار واستقرار وجوار آمن. ولهذا يبدو الجانب الجنوبي فى هذه النقطة غير مدرك لطبيعة الهدف من الاتفاق وينظر الى الأمر إجمالاً من واقع مصلحته هو وحده . لقد سبق وأن تواثقَ الطرفين تواثقاً قوياً ومشهوداً أنهم سيعملان على إنفاذ بنود الاتفاق بمسئولية كبيرة وإرادة أكبر، وكانت افضل ضمانة لهذا التواثق الارادة السياسية والرغبة الشديدة فى تجاوز الخلاف وعدم العودة الى الشد والجذب الذى كانت سمة بارزة لعلاقاتهما فى السابق. القضية برمّتها الآن لم تصل بعد الي ما يمكن أن نطلق عليه أزمة، فالاتفاقية ما تزال ضمن القيد الزمني المقرر لإنفاذها؛ ومن ثم فإن الأمور لم تصل بعد مرحلة الانهيار أو الفشل. هناك فقط (سوء فهم) يمكن اعتباره عابراً جعل الجانب الجنوبي يركز كل إهتمامه على الملف النفطي، وهو ما يمكن إعتباره بمثابة معركة فى غيرمعترك، فالملفات المتفق عليها جميعها بذات القدر من الأهمية ولم يرفض السودان مطلقاً تنفيذ بند من البنود، بقدر ما ظل يؤكد وما يزال يؤكد ان الملف الأمنيّ هو المفتاح فى الموضوع كله. ربما كان موقف جوبا فى هذا الصدد مثيراً للريبة، حيث بدت وكأنها غير متحمسة للملف الأمني، بما قد ينزع عنها أوراقاً سياسية مهمّة تجد صعوبة فى التخلِّي عنها، ولكن لم يعد هناك من مجال على الاطلاق للتراجع أو البطء، أو حتى التفكير فى إعادة الأمور الى سابق عهدها. فات الأوان تماماً على ذلك ويخشى الكثير من المراقبين ان تكون لجوبا حسابات اخرى تتعلق بشراء الوقت، والمماطلة فى التنفيذ حتى تدخل قضية أبيي على الخط ويزداد الأمر تعقيداً، وهى حسابات خاطئة لكونها لا تتيح حلاً معقولاً لقضية أبيي وقضايا الحدود العالقة طالما أن الأمن بين الجانبين غير متوفر والاستقرارغائب. إن بوسع الرئيسين البشير وكير بالطبع المسارعة بمعالجة الأمر علاجاً جذرياً بحيث تمضي الأمور على الاقل بالتوازي فيما بينهما حيث لا عذر لإرجاء ملف مهم كالملف الأمني، أو الإصرار على تنفيذ ملف النفط فقط. الوقت يداهم الطرفين وما تبقى من قضايا يحتاج الى حسن نوايا و ثقة متبادلة.