ليس سراً إن جوبا -وبإنتهازية مؤسفة- إستغلّت العارض الصحي للرئيس السوداني المشير البشير لعرقلة اجتماعات اللجنة الأمنية السياسية التى إنعقدت فى جوبا مطلع نوفمبر الماضي وحالت دون خروج الاجتماعات بنتيجة عملية لإنفاذ الاتفاق الأمني المنبثق عن إتفاقية التعاون المشترك الموقع بين الدولتين فى 27 سبتمبر الماضي. كانت حسابات جوبا التى بالطبع لم تفصح عنها صراحة ان العارض الصحي للبشير قد يفضي الى متغيرات وأن عليها ان تنتظر قليلاً لترى كيف ستمضي الأمور. كما كانت تراهن على إنشغال الجانب السوداني بتداعيات ذلك العارض الصحي فى ظل شائعات كانت تملأ الأرجاء بالحاجة الى تغييرات فى القيادة فى الخرطوم. ولهذا رأينا كيف استخدم الجانب الجنوبي تكتيك التعطيل والإرجاء والمراهنة على الوقت وشراؤه، خاصة وأن إنعقاد اللجنة الأمنية -لمصادفة سياسية بحتة- كان قد تزامن مع سفر الرئيس البشير يومها الى العاصمة السعودية الرياض لإجراء فحوصات طبية تكللت بعملية صغيرة ناجحة. وبعدما أدركت الحكومة الجنوبية ان الأمر لم يكن بما تصورته وأن الرئيس البشير سرعان ما عاد من رحلة الاستشفاء صحيحاً معافى أسقط فى يدها، ولكنها استخدمت تكتيكاً آخر هذه المرة، فقد بعثت وعلى نحوٍ عاجل ومفاجئ بوفد ترأسه وكيل وزارة النفط الجنوبية جاء الى الخرطوم يطلب الشروع فوراً فى إستكمال اجراءات اعادة ضخ النفط الجنوبي توطئة لتصديره عبر الموانئ السودانية. الوفد التقى وزير النفط السوداني بمكتبه بوزارة النفط السودانية وإنتهى اللقاء بتأكيدات الوزير السوداني عوض الجاز بأن من الضروري أولاً قبل إعادة ضخ النفط معالجة الملف الأمني لأنّ أمن واستقرار حدود الدولتين هو الضمانة الأكبر لضمان انسياب النفط وانسياب العلاقات الثنائية بينهما . وهكذا إنفضّ الاجتماع وعاد الوفد الجنوبي الى جوبا ليخرج بعدها بيومين بياناً من وزارة الخارجية الأمريكية يحث الطرفين على ضرورة المضي قدماً فى إنفاذ إتفاقهما وحلحلة القضايا المتنازع اليها. الرئيس الجنوبي سلفا كير ميارديت من جانبه سارع الى إتهام الخرطوم بإيرادها لشروط جديدة قبل ضخ النفط، إعتبرها غير راغبة فى إنفاذ الاتفاق. ولم يقف الرئيس كير عند هذا الحد ولكنه فى لقاء له بحكام الولاياتالجنوبية حضره مسئولين من الأممالمتحدة قال إنه يرى ان الخرطوم تطالبه بمهمة مستحيلة وهى نزع سلاح القوات التابعة لقطاع الشمال على حدود الدولتين! ولا نقول هنا أن الرئيس الجنوبي بدا غير أمين فيما قال ولكننا نقول (لم يكن دقيقاً) فيما قال، إذ أنّ أحداً فيما نعلم وفق متابعاتنا لم يطلب منه نزع سلاح أحد. ولكن الترتيبات الأمنية المقررة فى الاتفاق تحض على إيجاد معالجة للفرقتين 9 و 10 التابعتين للجيش الشعبي الجنوبي ومنتشرة فى ولايتيّ جنوب كردفان والنيل الازرق، وينص الاتفاق على ضرورة معالجتها من قبل الطرفين، وهو أمر ليس جديداً ولا مستحيلاً، إذ ليس من المعقول ان تحتفظ جوبا بقوات تتبع لها إدارياً فى دولة أخرى وتحاجج -ظاهرياً- بعد ذلك أنها أمور تخص الدولة وحدها! لقد كان الاتفاق ينص على أن تُعالج قضية هذه القوات وتتم عملية نزع سلاح وإعادة دمج وتسريح (دي.دي. آر) ثم تتم عملية إعادة إنتشار على الحدود وتنشأ منطقة عازلة لمسافة 10 كلم من كل جانب، وهذه الاجراءات من الوضوح وبحيث لا يمكن أن يختلف حولها الإثنان مطلقاً. كان واضحاً أن جوبا ما تزال تراهن على المتغيرات السياسية فى السودان ولهذا فإن الجانب السوداني تقدم خطوة إيجابية حين جرى إتصال هاتفي بين الرئيسين كير والبشير -الإثنين الماضي- تباحثا فيه حول ضرورة المضي قدماً فى إنفاذ الاتفاق وهو ما ينتظر ان يثمر ثماراً إيجابية اذا أعادت جوبا قراءة الأمور فى السودان بالطريقة الموضوعية الصحيحة. لقد إتضح من خلال مسلك جوبا طوال الشهر الفائت انها وإن كانت توافق على إعادة ضخ النفط إلا أنها لا ترغب عملياً فى إنفاذ الملف الأمني لما له من أبعاد وتداعيات سياسية وأمنية لديها بالغة الخطورة، والكل يعلم طبيعة الموقف حالياً فى جوبا وظهور حالات تذمر داخل قيادة الحركة الشعبية جراء ما يعتبرونها مواقف تحقق نجاحات للحكومة السودانية دون أن تمنح جوبا ذات النجاحات ولو فى حدها الأدنى، حيث ما تزال مشكلة الحدود معقدة وما يزال ملف أبيي غير معروف المآل ويعتقد بعض قادة الحركة ان جوبا ينبغي ان تستخدم ورقة الملف الأمني والنفط كوسيلة ضغط على الخرطوم حتى تتنازل الأخيرة عن أبيي وتقرّ بتبعيتها للجنوب! الرئيس كير فى هذا الخضم المتلاطم يبدو فى حيرة من أمره فهو شخصياً من وقّع على إتفاقية التعاون المشترك مع الرئيس البشير فى القمة التى جمعتهما فى أديس سبتمبر الماضي، وهو الذى قدّم تعهدات شخصية للرئيس البشير بالعمل على إزاحة كافة العراقيل والعقبات من طريق العلاقات بين البلدين، وها هو الشهر الأول ينقضي والاتفاق يدخل شهره الثاني دون أن يلوح فى الأفق ما يشيرالى رغبة جوبا فى إنفاذ الاتفاق كاملاً. من الواضح أن جوبا هى التى تضع العراقيل الآن وذلك لأن السودان الذى لا يخفي حاجته لمرور النفط الجنوبي أملاً فى معالجة موازنته العامة فضّل التضحية بالنفط الجنوبي لشهور قادمة أخرى الى حين حسم الملف الأمني. وتؤكد مصادر سياسية مطلعة فى الخرطوم ان الخرطوم مهتمّة غاية الاهتمام بالملف الأمني ليس فقط للحاجة الى استقرار وتأمين الحدود ولكن لأن الاتفاق الأمني فى الواقع هو مفتاح العلاقات الجيدة المستدامة بين البلين.