كل الخشية ألا تعي ولا تفهم قوى المعارضة السودانية رسالة المؤتمر الوطني الموجهة لها بإستمرار بضرورة المشاركة فى المشاورات الجارية بشأن الدستور الدائم. وهي رسالة ودعوة ظلت قيادات الوطني بدءاً من الرئيس وحتى أصغر قيادي بالحزب لا تمل من توجيهها غدواً ورواحاً لقوى المعارضة السودانية، بل إن الرئيس البشير لم يستثن حتى القوى المسلحة الناشطة ضد الحكومة السودانية. فى المقابل ما تزال قوى المعارضة السودانية – ودون أن تعطي نفسها وقتاً كافياً للتأمل والتفكير – ترفض باستمرار قبول الدعوة وكان آخر مواقف الرفض هذه -والغريب بذات المنطق المتكرر- قدمتها قوى المعارضة مطلع هذا الأسبوع، حيث أكدت بأنها لن تشارك قبل أن تتشكل حكومة انتقالية بمهام محددة وأن يكون الوطني – شأنه شأن بقية القوى السياسية – واحداً من القوى السودانية بذات الوزن والنسبة! ونحن هنا لسنا بصدد إعادة الحديث المكرور عن الفشل الذى ظل ملازماً لهذه القوى منذ أكثر من عشرين عاماً فى إسقاط الحكومة، فهو أمر ماثل لا يحتاج الى دليل إلا إذا احتاجت شمس النهار الساطعة هي الأخرى الى دليل! ولكننا بصدد تأمل طبيعة هذه الدعوة الحكومية ومخاطر استهانة واستهزاء القوى المعارضة بها؛ إذ أننا حتى لو استبعدنا تماماً ما أشار إليه الدكتور نافع على نافع، مساعد الرئيس السوداني – غير ما مرة – من أن القوى الأجنبية التى تدعم قوى المعارضة حذرتها من أنها لن تلتفت إليها مرة أخرى إذا ما أقيمت الانتخابات المقبلة فى العام المقبل وخسرتها، باعتبار أن ذلك فى تقدير هذه القوى الأجنبية عملاً ديمقراطياً ما من سبيل للطعن فيه.. لو استعدنا هذا الأمر (الجلل) بالنسبة لقوى المعارضة السودانية فإن هناك فى الواقع عدة نقاط يُستشف منها أن قوى المعارضة السودانية لم تعي بعد ولم تنتبه الى ما في هذه الدعوة من مخارج آمنة لها. النقطة الأولى أن الدعوة المقدمة إليها من الوطني تعتبر تحدياً وامتحاناً سياسياً مهماً للغاية وهو أمر ليس من المنظور أن تجود عليها به الظروف مستقبلاً، فهي مطالبة بتحديد وزنها السياسي الحقيقي ومدي تمثيلها لإرادة جماهير السودان. وخطورة رفض قوى المعارضة للدعوة التى ما تزال تجهلها أن الناخبين السودانيين سرعان ما بدا لهم أن قوى المعارضة تخشي خشية تامة تعريض نفسها (لامتحان قدرات سياسية) مطلوب فيه أن تعطي رأياً يتفق في غالبه مع رؤى وتطلعات من تزعم أنها تمثل نبضهم فى السودان ولديها شرعية سابقة فى ذلك ما تزال تزايد بها. فالدستور هو عماد البناء السياسي السوداني، وقوى المعارضة لديها اعتقاد بأنها تمثل السودانيين واقعياً، فلماذا إذن تتحاشى إثبات صحة ذلك عبر الإدلاء برأيها السياسي بحيث تضع -استناداً الى زخمها الجماهيري- قواعد اللعبة القادمة قبل قيام الانتخابات؟ ما الذي يجعلها تفضل خروج الجميع وتركها وحدها؟ النقطة الثانية فإن مقتضيات التغيير السياسي السلمي للسلطة القائمة -بداهة- محاصرتها سياسياً وشعبياً بالوسائل السلمية وحلبة الدستور وإبداء الرأي السياسي وهي الحلبة الملائمة بكل المقاييس لتقوم بهذا الدور، خاصة وأن الدستور –حتى ولو فشلت فى تمرير رؤاها بشأنه– سيُعرض لاستفتاء شعبي فى مرحلة من مراحله؟ لماذا تفضل قوى المعارضة التخلي عن (شعبها) فى هذه المرحلة التاريخية الهامة؟ والى متى تستسهل هذه القوى القيام بعمل وطني هام إلا في (غرفة خاصة لوحدها) ؟ النقطة الثالثة فإن كافة المعطيات السياسية فى السودان الآن تشير الى أن التغيير عبر العمل المسلح هو فى حكم المستحيل والمصيبة أن ذلك –حتى مع فرض استحالته– لو تم فإن من المؤكد أن القادمين على أسنة الرماح لن يمنحوا هذه القوى –وهي ما تزال جالسة على الرصيف– ما تحكم به، إذ ليس من المألوف بالطبع أن يشقى آخرون ليستلم الثمار من كانوا يجلسون بلا شغل ولا مشغلة كما يقولون! فالمراهنة هنا علي التغيير المسلح إن هو إلا ضرب من الجنون دون زيادة ولا نقصان، ولهذا فإن العروض المقدمة على الأقل ممكنة طالما أن السياسة هي فن الممكن!