(اتفق الجانبان على تنفيذ الاتفاق)!! كان أطرف عنوان رئيس في الصحافة السودانية حاول وصف نتائج القمة التي التأمت بداية الأسبوع الماضي في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا بين الرئيس عمر البشير وسلفا كير.. رغم نبرة التفاؤل التي تحدث بها وفد التفاوض السوداني بعد عودته إلى الخرطوم إلا أن النتيجة كانت صفراً كبيراً، بل إنها كانت معروفة سلفاً حتى قبل انعقاد القمة.. هناك من يعتقد أن الخرطوم السودان جادة في إقامة سلام مع جوبا على قاعدة علاقة استراتيجية ومصالح مشتركة، مصالح تستوعب ما بين البلدين من روابط وتداخل وجوار أبدي، ولذلك يرون أنه لا يمكن أن تُفكّر الخرطوم في غير ذلك إطلاقا، فلا المنطق السديد ولا العقل الرشيد ينسجمان مع موافقة الخرطوم من قبل على حق تقرير المصير وتسهيل إجراءات الاستفتاء وهي تعلم بحجم التزوير الخطير الذي تمّ، لتنشأ دولة معادية ومناكفة لها.. سنتحاشى الدخول في جدل حول ما إذا كانت الخرطوم (ساذجة) وتعاملت مع أمر الانفصال الذي رعته أطراف دولية مؤثرة مثل طفل غرير.. قلنا إن البعض يعتقد أن الخرطوم جادة في السلام، لكن جوبا تتجاذبها (الأرواح الشريرة)، فهي تريد أن يمر نفطها عبر أراضي السودان للتصدير عبر البحر الأحمر في أقصى الشمال الشرقي وفي الوقت نفسه تريد الاستمرار في دعم الحرب في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق السودانيتين عبر ارتباطها بما يسمى بالحركة الشعبية - قطاع الشمال. جوبا تماطل في تنفيذ اتفاق التعاون المشترك الذي وقّع في سبتمبر الماضي لأن عينها على نقل الملفات العالقة إلى مجلس الأمن حيث الملاذ الآمن وحيث المؤازرة الأمريكية.. ثابو أمبيكي ورئيس الآلية الإفريقية رفيعة المستوى، والوسيط الذي تصفه أوساط سودانية في الخرطوم بغير المحايد، كان قد لوّح عقب القمة بعصا مجلس الأمن قائلا: (يجب مراقبة أعمال التطبيق عبر مراقبين دوليين، وربما نلجأ لمجلس الأمن الدولي في هذا الشأن)؟! تمخضت قمة الرئيس الأخيرة فولدت فأراً، فتحدث عن (الاتفاق على مبادئ عامة) لتنفيذ اتفاق التعاون المشترك الراقد في غرفة العناية المركزة تحيط به أجهزة التنفس الصناعي والتغذية الوريدية، وينتظر الرئيسان كتابة ممثليهما مصفوفة التنفيذ ثم ترفع لهما لاحقاً لإجازتها؟! هل اللجنة السياسية الأمنية المشتركة التي فشلت في (3) اجتماعات بمعدل اجتماع واحد كل شهر قادرة على إعداد تلك المصفوفة أم أن القصة كلها محاولة من جوبا بمساعدة إفريقية وأميركية لشراء الوقت حتى تصل الملفات المختلف عليها إلى مجلس الأمن.. يشار إلى أن "سلفا" أمر قبيل حضوره إلى القمة التي تأجلت يوم بسبب الأجندة، قوات الأمن والشرطة والقوات العسكرية بالبقاء على أهبة الاستعداد من أجل الدفاع عما اسماه ب (العدوان السوداني)!! داخلياً تموج الساحة السياسية باتهامات متبادلة بين الحكومة والمعارضة وصلت إلى حد اتهام المعارضة بالخيانة ويبدو أن هذا الاضطراب هو الذي يغري جوبا باتخاذ مواقف متصلبة تجاه الخرطوم رغم أنها ليست أحسن حال إن لم يكن أسوأ.. من الحقائق التي لا يمكن إغفالها، أن العطب الذي يصيب الحياة السياسية في السودان ليس بسبب اعتلالات السلطة الحاكمة فحسب وإنما بسبب المعارضة المتخبطة، فبعضها يرتمي في حضن الأجنبي ويرفع السلاح في وجه الوطن.. بعض أحزاب المعارضة تدرك ماذا تريد وتستخدم ما تراه مناسبا من وسائل غير مناسبة لإسقاط النظام والبعض الآخر تتلاطمه أمواج بحر المعارضة، لا يدري أين ستلقي به تلك الأمواج.. النوع الأول لا يبالي بأي دعوة أو خطوة إيجابية من جانب الحكومة للحوار الوطني، فهو يريد إسقاطها بأي ثمن وبأي وسيلة ولو استدعى ذلك التعاون مع نظام الرئيس اليوغندي يوري موسيفيني الذي يناصب الخرطوم العداء.. حتى لو خالف حزب المؤتمر الوطني الحاكم مبادئه وتبنى دستوراً علمانياً فلن تستجيب معارضة النوع الأول لأي دعوة للمشاركة في وضع الدستور على سبيل المثال.. النوع الثاني من المعارضة قسمين أحدهما ساذج حيث يأخذه موج المعارضة حيثما يكون وكيفما يكون، أما القسم الثاني فهو وطني التوجه ولديه رؤية سياسية تختلف عن رؤية الحزب الحاكم المسيطر على كل مفاصل الدولة لكنه ليس في حساباته إسقاط النظام بالقوة أو التخابر مع الأجنبي، وفي مسألة الدستور مثلا لديه هواجس موضوعية، وخشية من أن يتبنى المؤتمر الوطني دستوراً مفصلا عليه مستخدما آلياته السياسية وأغلبيته الطاغية في البرلمان لتمرير ذلك الدستور ويستخدم القوى المعارضة ك(ديكور) و(كمبارس) ليعطي شرعية سياسية لذلك الدستور المفصل.. وثيقة (الفجر الجديد)، مغامرة جديدة من جانب معارضة النوع الأول.. هناك في العاصمة الأوغندية كمبالا وقع ممثلو المعارضة على تلك (المغامرة) التي تضمنت (إسقاط النظام بالوسائل السياسية والعسكرية).. الوثيقة حصلت على مباركة وتأييد الحركة الشعبية التي قالت عن تلك الوثيقة أنها (قفزة نوعية في السياسية السودانية).. لم تستطع النخب السياسية في السودان (حاكمة ومعارضة) احتراف العمل السياسي لكنها احتكرت لنفسها حق امتلاك الحقيقة، بينما الحقيقة نسبية ومتداولة بين الناس.. ليس مطلوبا البتة أن يكون هناك إجماع في أمور السياسة، فهذا أمر لا يقره المنطق.. يقول الإمام أحمد بن حنبل: الإجماع من الأمور العسيرة الحدوث في شؤون الفروع الدينية فضلا عن شؤون السياسة والمتغيرات الدنيوية. المصدر: الشرق القطرية 12/1/2013م