سواء كان الأمر تكتيكاً شيطانياً من قادة الثورية - الثلاثي المعروف- عرمان وعقار والحلو، لإغراق الأحزاب التقليدية المعارضة فى وحل سياسي عميق لا تقم لهم بعده قائمة؛ أو كان هواناً سياسياً ليس بمستغرب بالنظر لحال وواقع هذه الأحزاب المعارضة، فإن الوثيقة التى سُميت بالفجر الجديد دون شك هي بالفعل أتت بفجر جديد فى إطار العلاقة بين الثورية وهذه الأحزاب من جهة، وبين هذه الأحزاب وجماهير السودانيين من جهة أخرى. وقبل أن نشرح كيف ذلك، لابد أن نقرر بداية الى أنّ الحكومة السودانية لو بحثت عن أنجع السبل لإزالة جذور الأحزاب السودانية المعارضة من باطن الأرض تماماً لما وجدت أفضل مما فعلته الثورية - أو فعلته هذه الأحزاب بنفسها! فقد كانت الخسارة السياسية فادحة من أن تحتملها ظهور هذه الأحزاب المعارضة، وفى توقيت أحرج ما فيه أنه توقيت مفصليّ يجري الإعداد فيه لعلاقة أفضل مع دولة الجنوب، وقدمت الأخيرة – ربما لأول مرة – إشارات ومؤشرات عملية جادة وجديدة من المؤمل أن تثمر ثماراً ناجحة فى مقبل الأيام. إذا أردنا قراءة الوضع الجديد الذي وجدت فيه الأحزاب السياسية المعارضة نفسها فيه سواء على صعيد علاقاتها (الآثمة) مع الثورية أو علاقاتها المتآكلة مع جماهيرها فإن أول ما نلحظه بوضوح أن هناك اهتزاز عنيف فى الثقة ضرب الثورية والأحزاب بصورة غير مسبوقة. فلو قلنا إن الأحزاب المعارضة وكما قالت بلسانها (فوجئت) بالوثيقة وفوجئت بما ورد فيها، وأن ما ورد فيها لم ينل حظه من النقاش والحوار ومن ثم الموافقة، فإن مفاد ذلك أن الثورية تود فرض رؤيتها على هذه الأحزاب بحكم أنها هي التى تملك السلاح وتقدم تضحية الدم. وهذا أول مؤشر على مستقبل علاقاتها، وقد أوردنا ذلك كثيراً جداً وأكثر من مرة بأن قادة الثورية لا يضعون فى اعتبارهم مستقبلاً لهذه الأحزاب جنباً الى جنب معهم، فقد بدأت عمليات (التهميش) وفرض الرؤى منذ الآن، ومن شأن هذا أن يرعب هذه الأحزاب ويثير انتباهها الى أنها فى الواقع تسعى لحتفها بظلفها حين تعطي رقبتها طائعة لقادة الثورية. وإذا قلنا من جانب آخر مختلف تماماً عن هذا الجانب، إن الأمر متفق عليه اتفاقاً تاماً ومن ضمن ما هو متفق عليه -كسيناريو- أن تتنصل الأحزاب من الوثيقة حال عرضها لتفادي الحرج السياسي الذي قد ينجم عن تداعياتها؛ فإن معني هذا أيضاً أن للثورية (يد عليا) على هذه الأحزاب حيث تسمح لها (في إطار اتفاق جنتل مان) بالتنصل من الوثيقة لأغراض تكتيكية محسوبة، وهو ما ينتج عنه خسارة مزدوجة حيث تبدي هذه الأحزاب (خجلها السياسي) مما فعلته بيدها في (الغرف المغلقة) وحيث تكتشف جماهيرها أنها تخادعها، وفي الحالتين تخسر مصداقيتها أمام الثورية وأمام جماهيرها. ومن جهة ثالثة فإذا كان ما جرى بالفعل هو محض تقدير خاطئ من قادة الثورة بإمكانية قبول هذه الأحزاب (للتحالف مع الشيطان نفسه) من أجل إزالة النظام القائم؛ فإن ما حدث يزعزع ثقة الثورية فى هذه الأحزاب كونها فى الواقع لا تختلف عن الوطني -في الرؤى والأطروحات- بدليل تنصلها هذا، ومن ثم يمكن أن تُصنّف فى ذات الموقع الذى تصنِّف فيه الثورية الوطني ليتسنّى لها الحكم على هذه الأحزاب بأنها غير مواكبة لتطلعات المهمّشين وأصحاب السودان الجديد ليكون ذلك خير مسوغ لمحاربتها هي نفسها، خاصة وأنها (لها أسرارها) مع الثورية ومتورطة بالعديد من المواقف والمعاملات التى يصعب عليها أن تتم مواجهتها بها. وكما قلنا، وسواء كانت هذه أو تلك فإن الواقعية باعدت بين الاثنين فى الوقت الذى كانا يسعيان فيه للتحالف؛ ومن جهة ثانية –وطالما أن هذه الأحزاب ضعيفة وتعاني ما تعاني من الإشكالات – وفى ظل اهتزاز الثقة بينها وبين الثورية، فهي لن تجد مناصاً من التقارب مع الوطني عاجلاً أم آجلاً، ففي السياسة كما فى الحياة عموماً، ليست هنالك صداقات دائمة، ولا عداوات دائمة!