على عدم وجاهة الحجج التى تمسكت بها أحزاب الأمة، الشعبي،الشيوعي، بشأن وثيقة الفجر الجديد وزعمها أنها لم تفوض ممثليها بالتوقيع عليها، إلا أنها على أية حال، ولو على سبيل الخوف من النتائج السياسية الكارثية، أو الخجل والحياء من (المولود غير الشرعي) تنصلت من الوثيقة وباعدت بينها وبين ما ورد فيها وخسرت ما خسرت. غير أن المشهد (المضحك المبكي) كان على صعيد أحزاب أخرى وهي أحزاب البعث والناصري وحق وقطع أخرى صغيرة محشوة حشواً فى حقائب ما يسمى بالإجماع الوطني؛ من النادر أن يأتي على سيرتها أحد، أو أن يحس بوجودها أحد. أحزاب اليسار هذه الموقعة (مع سبق الإصرار والتشاور) على الوثيقة ما استطاعت البتة أن ترفع صوتها (ولو لمرة يتيمة واحدة) لتقول أنها وقعت على الوثيقة وأنها مصرّة عليها، ولا انبرت للدفاع عنها، ذلك على الرغم من أن هذه الأحزاب الصغيرة معنيً ومبنىً ليس لديها ما تخسره. بل ربما كان من الطبيعي أن تنادي بالعلمانية وفصل الدين عن الدولة ومن الطبيعي أيضاً أن تصعد الى سيارات الثورية ذات الدفع الرباعي تجرِّب حظها، فهذا سبيلها الوحيد، حيث لم يعرف لها التاريخ الانتخابي فى السودان نجاحاً قط. لقد امتلأ فاه هذه الأحزاب بالماء الشديد البرودة خاصة ونحن الآن فى فصل الشتاء، وهالها أن ترى أحزاباً معارضة عريقة وقد تساقطت كما الذباب لهول المأزق وصعوبة العبور على الجسر المتهاوي. إن من المنطقي أن يدافع كل من يقتنع بأطروحة من الأطروحات عن أطروحته. ومن المنطقي (أن يموت فى سبيلها) و (يناضل) أيما نضال من أجلها، ولكن هذه الأحزاب سارعت بالانزواء والعودة الى وكناتها مفضلة (الفرجة البريئة) على خوض غمار معركة سقط فيها ديناصورات، فما بالك بالعصافير الزغب الصغيرة! إن مؤدى هذا (الهروب الصامت) أن مكونات ما يسمى بقوى الإجماع من الضعف والهشاشة بمكان، بحيث يستحيل أن تصمد فى أيّ هبة ريح عابرة تواجههم خلف أقرب شجرة. وهو ما يُستشف منه أن تحالف الإجماع هذا في الواقع لا يعدو كونه تحالفاً لأغراض الضجيج الإعلامي والحديث المجترّ اجتراراً عن الحريات وحقوق الإنسان واستعادة الديمقراطية؛ إذ لا يدري أحد كيف يكون هؤلاء ديمقراطيين وهم (منذ الآن) يصيغون مستقبلاً مغايراً تماماً لرؤى السودانيين! ولا يدري أحد من الذي فوّض قوى الإجماع الوطني هذه شعبياً لكي تحكم السودان (علمانياً) وهناك أحزاباً من بينهم لم ترَ النور إلا بالحديث عن الدين والجهاد والشريعة الإسلامية؟ ولعل الأعجب فى شأن هذه الأحزاب اليسارية أنها -لمفارقات القدر وسخرياته المريرة- تدعو للوحدة - مثل البعث بشقيه وأشتاته - ومع ذلك لم تجد حرجاً في أن تقبل أطروحات ذات منحى عنصري فاقع بتقسيم السودان الى أقاليم! ومع دعواتها العروبية الفاقعة، رضيت بتغليب سحنات أخرى على حساب التعدد الإثني المعروف في السودان. ولهذا كان من المحتم إزاء هذا التناقض فى المواقف والأطروحات، والتباعد ما بين المبادئ والفرص السانحة أن تنزوي هذه الأحزاب هاربة بجلدها الى حيث تجد السكينة والسلامة حتى لا يحطمنها شعب السودان وجنوده وهم لا يشعرون! بالمقابل فإن الذين قيل أنهم لم يكونوا مفوضين بالتوقيع على الوثيقة لم تسعفهم أفواههم وألسنتهم للدفاع عن توقيعاتهم، فقد ارتضوا أن يكونوا (السلة القذرة) التى يتمخّط عليها قادة أحزابهم ويلقوا فيها بنفاياتهم، وهو أمر نادر في العمل السياسي الحزبي القويم، سواء لأغراض المصداقية والمبدئية، أو حتى للطبيعة الإنسانية التى ترفض الرمي بالباطل والبهتان! كل هؤلاء صمتوا وانزووا، ولا غرو فقد كانت التجربة أقسى عليهم لأنهم ظُلِموا (ظلم ذوي القربى) الذي هو أشد مضاضة من طعن الحسام المهند!