لا يقلل أحد من قيمة ما تتوصل إليه من تطلق على نفسها قوى الإجماع الوطني فى سعيها -الذى طال كثيراً- للوصول الى السلطة عبر وسائل وطرق هي نفسها لا تعرف كيف وأين ومتى تصل إليها، فالتقليل هنا ليس بالطبع فى (الحبر) و(الورق) والأشهر والسنوات التى قضوها فى محاولة للتوصل لهذه الأطر النظرية؛ إنما التقليل -والذي يعرفه القاصي والداني- هو ذاك الذي يتعلق بما إذا كانت هذه القوى – بأوراقها ووثائقها النظرية هذه – قادرة على (ترجمة) أطروحاتها هذه على شعب تعرف جيداً ما إذا كان يقبل بهذه الأطر والأطروحات النظرية؟ وإذا هي فعلت، هل هي قادرة على أداء هذا الدور وهي متماسكة متجانسة فيما بينها ومن ثم النهوض بالبلاد كما هو مطلوب؟ هذه الأسئلة الموضوعية ورغم كونها أكبر بكثير جداً من واقع هذه القوى المعارضة – لأسباب واضحة ومعروفة – إلا أننا وجدنا أن نشير الى أن ما أطلقت عليه قوى الإجماع هذه (الفجر الجديد) عبر بيان ممهور بتوقيعها قبل يومين، تجاهل أمراً أساسياً على قدر كبير من الأهمية، وهو أنّ السودان فى الوقت الراهن تحكمه منظومة حاكمة، منتخبة مهما كانت المغالطة فى هذا الصدد، ومهما بلغت المكابرة بالبعض درجة إنكار كل شيء؛ ونُحيل قوى المعارضة فى هذا الجانب تحديداً الى ما قاله المبعوث الأمريكي برنستون ليمان قبل أيام على صفحات جريدة الشرق الأوسط حول إقرار بلاده بصحة وسلامة العملية الانتخابية التى جرت فى السودان فى ابريل 2010 فقد أشار ليمان ضمن ثنايا الحديث المطول الى أنهم -كإدارة أمريكية- كانوا قد نصحوا متمردي جنوب كردفان بضرورة قبول نتيجة الانتخابات، وبالعدم الطعن فيها قضائياً! مشيراً الى المراقبة الدولية التى تمت حول هذه الانتخابات وفي مقدمة هذه الرقابة مركز كارتر. بل إننا لا نلاحظ حتى هذه اللحظة رغم كل العداء الذى تمارسه واشنطن ضد السودان ورغم (الصلات الخفية الوثيقة) بينها وبين القوى المعارضة أنها لم تقدح مطلقاً فى صحة هذه العملية. صحيح أن واشنطن لا تمنح شرعية لأحد ولكن من المؤكد أنها تضع فى حساباتها مثل هذه الحسابات المهمة. إذن إغفال هذه القوى وقفزها فوق نتيجة الانتخابات وشرعية السلطة الحاكمة حالياً هو شطط وخروج عن الموضوعية ألقى بأعظم أثر سالب عليها ليس فقط لعدم اعترافها بشرعية الحكومة فهذا شيء مقدور عليه، ولكن من زاوية أخرى شديدة الخطورة والأهمية، وهو أن قوى المعارضة تقلل وتستهين بإرادة الناخبين الذين انتخبوا السلطة الحالية، إذ من المؤكد أن هنالك ناخبين لا يُستهان بهم، وما من عاقل يستهزأ بإرادتهم، أعطوا ثقتهم لهذه الحكومة، ليس من الحكمة فى شيء سلبهم حقهم فيما اختاروا. على كلٍ ليس هذا كل الأمر، ولكن تلاحظ فى وثيقة قوى المعارضة هذه وبصورة فاقعة مثيرة للاشمئزاز إقرار المتحالفين لمبدأ (فصل الدين عن الدولة)، والواقع إن هذا المبدأ تكفل وحده بإلحاق أبلغ الأذى بهذه القوى، إذ أن الأمر هنا يتعلق بإقرار هذه القوى بالعلمانية كوسيلة للحكم فى الفترة التى قرروها لأنفسهم، ونسي هؤلاء أن الجدل الدائر حول فصل الدين عن الدولة والعلمانية هو جدل النخب والفلاسفة فى القاعات المغلقة، وبالمقابل فإن الذى يعلن هكذا بملء فيه أن يحكم السودان بهذا المبدأ فإنه دون شك يواجه برفض ومقاومة تلقائية من جماهير السودان. لا يمكن لعاقل أن يقنع جماهير السودانيين الذين نشئوا على مبادئ الدين سواء كان بصوره التقليدية فى المدن والقرى والأقاليم، أو حتى بصوره التى جاءت حديثاً بأنه يود أن يفصل الدين عن الدولة. لا تستحق بقية الأطروحات الواردة فى الوثيقة مجرد الإشارة إليها فهي محض تصورات وأحلام مجانية ولا تكلف واضعيها شيئاً وإن كان من ميزة تميزت بها هذه الوثيقة المعارضة فهي أنها اضطرت قوى المعارضة بعد طول تردد ولف ودوران للتعبير عن مكنوناتها وعرض بضاعتها ليقرر السودانيين مدي صلاحيتها!