يسود العالم اليوم شعور كاسح بأن المسيرة الديموقراطية في أماكن كثيرة تعاني تراجعاً لافتاً. وتصدر التقارير والتحذيرات من الهيئات المختصة في هذا الشأن وبخلاف إدارة بوش، فقد انتهجت إدارة أوباما موقف «تشجيع» الديموقراطية، من دون محاولة فرضها مع الاعتراف بخصوصية كل بلد. ولا بد في الواقع من «وقفة مراجعة» موضوعية وجادة، إلى أبعد الحدود، لرؤية الأفق البعيد وسط هذا الضباب وهذه الغيوم التي أصبحت تسد الرؤية وتسبب الإحباط للكثيرين، ولا بد من واقعية المنهج وموضوعية البحث للتوصل إلى تشخيص مقنع وأقرب إلى الصحة... وما زلت على اعتقادي الراسخ أن الديموقراطية «لا بد، ويجب، وينبغي!» أن تكون لها جذورها الاجتماعية الملائمة لتقوم وتنمو وتتطور، وإلا فإنها نبتة في مهب الريح، ويمكن أن تطيح بها أي نسمة هواء، ولا يمكن أن تنقذها النوايا الطيبة، أو حقوق الإنسان، أو الضغوط الخارجية، فبالإمكان إصدار دستور يتضمن برلماناً منتخباً... من دون تنفيذ. من جانب آخر، على رغم صغر البحرين – مثلاً - فإن التطور الحضاري التنموي الذي مر به مجتمعها منذ عشرينات القرن المنصرم، يساعد اليوم على نجاح «المشروع الإصلاحي» الذي يقوده ملكها حمد بن عيسى آل خليفة، الهادف إلى تطوير سياسي يكمل التطوير الحضاري للبحرين الحديثة. وتستعد البحرين لانتخاباتها النيابية الثالثة بعد أشهر قليلة. * * * بعد الحرب العالمية الأولى، طالب الرئيس الأميركي في حينه وودرو ولسون (1856 – 1924) المجتمع الدولي بالسعي إلى إقرار حق «تقرير المصير» لمختلف شعوب العالم ونشر الديموقراطية في سائر بلدانه – وكان من أجندته إبراز دعمه والدعم الأميركي بعامة لعصبة الأمم التي جاء إلى أوروبا لمباركتها – فلم تثمر دعوته، في ضوء التجربة، إلا حيث كانت للديموقراطية جذور مترسخة في التربة الاجتماعية، أما حيث افتقرت إلى ذلك، فإنها كانت بمثابة «حلم ليلة صيف»! وكان حلم الصيف الآخر الذي لم يتحقق انضمام أميركا إلى عصبة الأمم! وثمة أوجه شبه كثيرة بين الرئيس وودرو ولسون والرئيس الأميركي الحالي باراك أوباما. فالاثنان جاءا الى البيت الأبيض من خلفية جامعية، وكلاهما ينتميان للحزب الديموقراطي. إلا أن أهم شبه بينهما هو «المثالية» في الطرح والرغبة الملحة في «الإصلاح». وقد أقنع ولسون الكونغرس عام 1916 بإصدار تشريعات تحدد: ساعات عمل الأطفال، وساعات العمل في الخطوط الحديدية، الارتقاء بمستوى التعليم، وإيصال الطرق إلى النواحي الزراعية. ومثل أوباما، بذل وودرو ولسون جهداً كبيراً وأظهر صبراً عظيماً لتجنب دخول الحرب التي كانت عندئذ ضد ألمانيا وكانت قطعها البحرية تغرق السفن التجارية للحلفاء وعلى متنها أميركيون، لكنه اضطر إلى دخولها ضد الألمان في نيسان (أبريل) 1917بعدما تمادت ألمانيا في عمليات الإغراق. والمفارقة أنه قبل ذلك التاريخ عاد إلى الرئاسة بشعار: «أبقانا ولسون بعيداً عن الحرب!» (مثلما قرر أوباما قبل أسابيع إرسال قوات إضافية إلى أفغانستان تخوض الآن معارك طاحنة!). وأيضاً مثل أوباما مُنح ولسون جائزة نوبل للسلام في كانون الأول (ديسمبر) 1920 وهو صاحب النقاط الأربعة عشر لإرساء عالم السلام بعد انتهاء الحرب والتي طرحها أمام الكونغرس في تموز (يوليو) 1918. وقد اضطر الرئيس نلسون للتنازل عن بعض طروحاته المثالية، ممهداً الطريق لنشوء «عصبة الأمم». لكنه فقد الكثير من رصيده المعنوي في بلاده والعالم كما هو حاصل للرئيس أوباما اليوم وللأسباب ذاتها! ... غير إن نلسون قد أثبت إمكانية تحوله من «أستاذ جامعي» إلى «قائد عسكري» – بعكس ما تقوله السيدة الجمهورية سارة بالين في غمزها من قناة الرئيس أوباما!. وكان كاتب هذه السطور قد حدد شروطاً للديموقراطية، كي لا نستخدم المصطلح الديموقراطي ويعني كل طرف أشياء أخرى، في كتابه «العرب والسياسة: أين الخلل» - ص 171). وبعد تلك الشروط تم التنبيه، في الكتاب المذكور (1998) إلى العامل السوسيولوجي الأخطر: «وهو تحديداً: إذا كانت السلطة والقوى الشعبية – حتى لا نقول المعارضة – تنتمي في أصولها المجتمعية إلى تكوينات وبُنى عصبوية ولم تتطور اجتماعياً وحضارياً بما يؤهلها لتمثل الديموقراطية واستيعابها، فهل نتوقع منها أن تلتزم بشروط الحد الديموقراطي الأدنى؟». ولمن أخافهم هذا الكلام من العرب، فالمسألة ليست مسألة جينات لا مفر منها، وإنما هي مسألة افتقار للتطور الاجتماعي والتنموي والحضاري الذي لا بد من أن يحدث قبل أي تحول ديموقراطي. وباختصار: «فلا ديموقراطية بلا ديموقراطيين. ومن هذه الزاوية تبدو مسألة الإعداد الجماعي للديموقراطية طويلة الأمد تقتضي أجيالاً من التحول المجتمعي التنموي والتحضيري التقدمي. ولا توجد في التاريخ حلول سحرية، وفاقد الشيء لا يعطيه» (المصدر المذكور، ص 173). ومصداق ذلك نراه الآن بأم العين في العراق. ومن غير المستبعد ظهوره في مجتمعات عربية إسلامية أخرى (وذلك ما يراهن عليه الآخرون في مواجهتهم للعرب والمسلمين). ولذلك قال الأقدمون، في الفكر السياسي الإسلامي: «سلطان غشوم ولا فتنة تدوم» حيث لم يكن الاختيار بين الاستبداد والحرية، بل بين الاستبداد و «الفتنة» الدموية! ولهذا قال الإمام علي في «نهج البلاغة»: «ولا بد للناس من إمام برٍ أو فاجر تأمن به السبل ... الخ». وعلينا ألا نتمسك بأي وهم: إن «الإسلام الإلهي» يحمل مبادئ قابلة للتطور ديموقراطياً (بما في ذلك «صحيفة المدينة» المغفلة للأسف والتي وضعها النبي الكريم بنفسه!). ولكن «الإسلام التاريخي»، أعني اجتهاد المسلمين في الحكم، لم يحمل «مظاهر» للشورى في الممارسة ... ناهيك بالديموقراطية، وهو حديث يطول، وربما كان له موضع آخر. * * * وعودة إلى أيامنا هذه، فإن مظاهر تقدم الديموقراطية كثيرة، أبرزها انتخاب الأميركيين لرئيس من غير البيض – والمجتمع الأميركي متطور ديموقراطياً منذ زمن – كما تتطور روسيا نحو الديموقراطية تدريجاً، وستأخذ وقتاً غير قصير إلى أن تصل، وفي عالمنا العربي نرى أن انقلاباً عسكرياً حاكماً، كالانقلاب السوداني، يتجه اليوم إلى انتخابات ديموقراطية، بعد عشرين عاماً من غيابها، وتظهر القيادة السودانية الحالية مرونة سياسية تفهم التطور، والمأمول أن تبقى ممسكة بزمام الأمور لأنها إن أفلتت فإن «المكونات السودانية» ستتواجه في وضع آخر لا يختلف كثيراً عن الوضع العراقي. ويقود الملك عبدالله بن عبدالعزيز عملية تطوير اجتماعي وحكومي لا يخلو من أبعاد سياسية في مجتمع تتوجس قواه المجتمعية من الانفتاح أكثر من سلطاته. وهي «ظاهرة» إن نجحت ستكون تغيراً جذرياً مهماً في المشهد العربي. غير أن ثمة مؤشرات أخرى في عالمنا تشير إلى الاتجاه المعاكس، من أبرزها تحفظ الصين، التي تعتبر قوة دولية صاعدة وتمثل حوالي ربع البشرية بثقلها السكاني، حيال الديموقراطية. كما أن انحسار الديموقراطيات في العالم العربي والإسلامي ظاهرة لا تخطئها العين. وعندما يحل قائد «ثوري» محل أي دكتاتور «رجعي» فلا بد من أن يكون مثله دكتاتوراً، لأن الديموقراطيات لا تولد فجأة. هكذا كان لينين بعد القيصر الذي ثار عليه بين أمثلة كثيرة... أما ستالين ... فرحمة الله على القيصر!! المصدر: ايلاف 25/2/2010