رسائل سلبية عديدة حاولت الخرطوم إرسالها إلى واشنطن إثر إعلان الأخيرة تعيين مبعوث أمريكي جديد للسودان (الخرطوم وجوبا).. الخرطوم مستاءة جداً من تطاول جمود العلاقات بين البلدين، وترى أن هذه الحالة ظلت مستمرة رغم مؤشرات (حسن السير والسلوك) التي أبداها الخرطوم خلال العقد الماضي؛ بدءًا بتعاونها في حملة واشنطن على ما تسميه بالإرهاب منذ أحداث سبتمبر 2001 وانتهاء بتوقيع اتفاقية السلام الشامل مع جنوب السودان ومن ثم إجراء الاستفتاء الذي أفضى إلى فصل الجنوب.. الخرطوم ترى أن المبعوث الجديد لن يضيف شيئاً لصالح تطبيع العلاقات بين البلدين كما أنه دليل على أن واشنطن لا تفكر حالياً في رفع تمثيلها الدبلوماسي من قائم بالأعمال إلى سفير، ومعلوم أن البيت الأبيض سحب السفير الأمريكي من الخرطوم عام 1998، ولم يعد لواشنطن سفير في الخرطوم منذ ذلك الوقت. فحسب رأي الخرطوم أن واشنطن إن كانت جادة بالفعل في تحسين علاقات البلدين فعليها رفع تمثيلها الدبلوماسي ولن تكون هنالك بعد ذلك حاجة لتعيين مبعوث جديد. أول مبعوث خاص للرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما للسودان كان اسكود غرايشون وبعد فترة من الزمن خلُص إلى أنه ليس هناك دليل على تبني السودان للإرهاب وليس هناك إبادة جماعية وأوصى برفع العقوبات عنه والبدء في تطبيع العلاقات معه، لأن كل ذلك في رأيه يصب في حل مشكلة دارفور.. في سبتمبر 2010 تحدث النائب الأول للرئيس السوداني علي عثمان طه بنبرة إحباط واستياء واضحين وهو يشارك في اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة، قائلاً: (واشنطن تريد حل مشكلة دارفور وإجراء الاستفتاء في الجنوب، ومواجهة النتائج الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المعقدة لانفصال الجنوب، ولكنها لا تريد أن تسأل نفسها كيف يقدر السودان على كل هذا وهي تمارس سياسة لإضعافه)!! الصراع أو الخصومة بين الطرفين قائمان بين رؤيتين متصادمتين؛ الأولى: تأتي في سياق تركيز الخرطوم على مسألة استقلال القرار السياسي والاقتصادي والإرادة بغض النظر عن أطروحة الإسلام السياسي التي تعتمدها؛ والثانية: الرؤية الغربية المستندة إلى الديمقراطية بمفهومها الغربي واقتصاد العولمة.. صراع الرؤيتين قد يبدو أحياناً (ناعماً)، وأحياناً أخرى (عنيفاً) إلى درجة استخدام القوة العسكرية كما حدث في مصنع الشفاء للأدوية.. لقد ظل السودان على قائمة (الإرهاب) الأمريكية منذ أغسطس 1993.. هناك ثمة تساؤلات ملحة في شأن هذه العلاقات المتوترة ليس من السهل الإجابة عنها في هذه المساحة: ما هي مصالح الولاياتالمتحدةالأمريكية الحيوية التي يهددها نظام الرئيس عمر البشير في السودان؟. ما هو حجم الخسائر السياسية والاقتصادية التي تتحملها الخرطوم وبدرجة أقل واشنطن جراء هذه الخصومة؟. ما هي أسباب فشل سياسة "العصا والجزرة" التي أعلنتها واشنطن في مواجهة الخرطوم؟. ما هو حجم التنازلات المطلوب تقديمها من جانب الخرطوم؟، وهل هذه التنازلات تصل لحد محو النظام كلياً من المسرح السياسي السوداني؟ كانت قمة المواجهة بين البلدين عندما قصفت الولاياتالمتحدة مصنع الشفاء للأدوية في قلب الخرطوم في 20 أغسطس 1998م باستخدام تقنية عالية عبر صواريخ أطلقت من بوارج حربية في البحر الأحمر.. قبل ثلاثة أسابيع من قصف المصنع كتب الصحفي الأمريكي جيم هوغلاند في صحيفة نيويورك تايمز في 30 يوليو 1998م، يقول: "إنّ هناك تقارير تفيد بأن أمريكا تمارس اللعبة القذرة القديمة وتقود حرباً سرية ضد السّودان".. صحيح أن أجواء ما قبل القصف كانت مفعمة بالهواجس الأمريكية تجاه السودان، مثل إيواء الخرطوم لأسامة بن لادن، واتهام الخرطوم بالضلوع في تفجيرات سفارتي الولاياتالمتحدةالأمريكية في كينيا وتنزانيا في 9 أغسطس 1998، إلا الرئيس الأمريكي حينها بيل كلينتون كان في خضم فضيحة (مونيكا لوينسكي)، وقد بلغت صفحات تقرير المدعي العام في الحادثة (400) صفحة مفعمة بالتفاصيل المخجلة والمدمرة سياسياً، وعليه قرّر كلينتون وفقاً لمراقبين قصف مصنع الشفاء السوداني للتغطية على الفضيحة وشغل الرأي العام بتهديد السودان للأمن القومي الأمريكي. كانت أزمة دارفور مسوغاً مناسباً لواشنطن للضغط على الخرطوم وربما كانت إحدى الوسائل المناسبة والفعالة للإطاحة بنظام عمر البشير وهي غاية لم تخفها واشنطن.. رغم أن الولاياتالمتحدة قد أبدت تأييدا "ماكراً" لاتفاقية وثيقة الدوحة في يوليو 2011 إلا أن الحقيقة تقول إن الاتفاقية لم تعجبها وليس من مصلحتها إرساء السلام في دارفور طالما النظام الحاكم في السودان هو نظام البشير.. القبول الدولي والإقليمي للاتفاقية أخجل الإدارة الأمريكية فلم تستطع إبداء أي معارضة صريحة.. لقد استخدمت واشنطن وسائل عديدة ل(استثمار) أزمة دارفور؛ بدءًا بالوقوف خلف استصدار أكبر حزمة من قرارات مجلس الأمن يمكن أن تصدر في حق دولة في فترة وجيزة وتحت البند السابع، مروراً بالعزل السياسي والإعلامي، وترسيخ اتهامات الإبادة الجماعية، وانتهاءً بتحويل قضية دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية واستصدار أمر قبض دولي على رأس النظام الرئيس عمر البشير. المصدر: الشرق القطرية 15/9/2013م