تحتل العلاقات بين واشنطنوموسكو البند الأول في قائمة الاهتمامات الأميركية للعام الجديد. ملفات فاصلة عديدة مرهونة بها. بدءاً من الشرق الأوسط وخفض الترسانة النووية، مروراً بالملف الأمني الاستراتيجي في المسرح الأوروبي وانتهاء بالانسحاب الأميركي الوشيك من أفغانستان. كانت توقعات إدارة أوباما مبنية على أساس أن تصحيح العلاقات التي تنوي المضي بها مع روسيا من شأنه ضمان تعاون موسكو، وبما يساهم في تسهيل التعامل مع هذه التحديات. لكن هذه الحسابات تبخّرت والعلاقات دخلت في شتاء بارد طويل، انقلب معه التعاون الموعود إلى خصومة جديدة تهدّد بالمزيد من التفاقم والتأزم في غير مكان. ولا ينفي المراقبون الأميركيون أن إدارة أوباما تتحمّل قسطاً من مسؤولية هذا التردي، لأنها تعاطت مع الشأن الروسي على طريقتها الملتبسة المألوفة التي دفعت الرئيس بوتين المتردد أصلاً في التقارب مع الغرب، إلى القيام بسلسلة مناورات بارعة أدّت ليس فقط إلى تسريع عودة موسكو إلى منطقة حساسة مثل الشرق الأوسط، بل أيضاً إلى إرباك واشنطن إلى حدّ بعيد في الصراع الجيو استراتيجي الدائر فوق ساحاتها. لقد ساد الاعتقاد مع بداية رئاسة أوباما ونظيره ميدفيديف، بأن العلاقات الأميركية الروسية تتجه نحو الدخول في فصلها الربيعي، بحيث تستقر على معادلة تبدو معها موسكو وكأنها باتت على طريق العودة إلى السّرب الغربي. فهي بحاجة إلى خبرات وتكنولوجيا الغرب للنهوض باقتصادها والقيام بالإصلاحات اللازمة. غزارة عائدات النفط والغاز، تكفل الاضطلاع بهذه المهمة، التي وضعها الثنائي بوتين- ميدفيديف على رأس قائمة الأولويات الروسية. وزاد من احتمال حصول هذا التقارب، أن الرئيس أوباما كان قد أبدى استعداده للعمل من أجل وضع هذه العلاقات على سكّة التصحيح. لا سيما وأنه أعرب عن طموحه لعالم خال من الأسلحة النووية، تشكل موسكو مدخله الإجباري. بداية واعدة وفعلاً كانت البداية واعدة. حصلت لقاءات رئاسية تكللت عام 2010 بإنجاز اتفاقية "ستارت2" قضت بخفض الرؤوس النووية لدى الجانبين إلى 1550. خطوة حفّزت إلى طرح فكرة اتفاقية ثانية لتقليص العدد بنسبة 30%. وجرت اتصالات في هذا الخصوص، بالترافق مع تزايد التعاون الأمني، بخصوص الإرهاب ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل. على هذه الخلفية تعزّزت الثقة وتراجعت درجة الارتياب المتبادل. لا سيما بعد أن ألمح أوباما إلى نيته بإمكانية صرف النظر عن نصب واحدة من قواعد الدرع الصاروخية الواقية في بولندا والبحث عن بديل لهذا الموقع، تجاوباً مع المطلب الروسي. لكن الطموح لم يصمد أمام الاختبار. الأحداث، خاصة في الشرق الأوسط، كشفت هشاشة أرضية التقارب. بوتين شديد الحساسية الوطنية، وما زال أسير مرارة الانهيار السوفييتي. وأوباما جرفته الاعتبارات التي تتحكم بصناعة القرار الأميركي، والتي لم تتخلّص بعد من بقايا عقلية الحرب الباردة وما صاحبها من شعور بالتمايز. وفي ضوء ذلك بدأت التطورات مع عام 2011، تفرمل التقارب وتؤسس للافتراق. من التدخل في ليبيا إلى ما رآه الكرملين بمثابة تدخل في الشؤون الروسية، سواء تحت عنوان الديمقراطية وحقوق الإنسان، أو تأييد تظاهرات موسكو أواخر 2011 اعتراضاً على الطريقة التي جرت فيها الانتخابات الروسية آنذاك. وتكلل التأزم بتصويت الكونغرس وتوقيع أوباما على ما يسمى قانون "ماغنيتسكي" باسم المعارض الروسي الذي مات في السجن الذي فرض عقوبات بحق مسؤولين روس. وأخيراً جاء الوقوف الأميركي إلى جانب المعارضة في أوكرانيا ضدّ النظام المحسوب على موسكو، لنسف ما تبقى من احتمالات التقارب. خلفية متأزمة على وقع هذه الخلفية باشر بوتين منذ بداية رئاسته الثانية ربيع 2012، بالرد بخطوات مضادة: أقفل مكاتب وكالة التطوير الأميركية في روسيا. ثم منع بموجب قانون، تبنّي أي أميركي لطفل روسي. لكن الرد الأكبر جاء في الموقف الروسي الميداني وفي مجلس الأمن، من الأزمة السورية. ثم جاءت صفعة الخبير الأميركي إدوارد سنودين، الذي منحته موسكو حق اللجوء المؤقت، بعد كشفه لمعلومات خطيرة حول التجسس وعمليات التنصت التي تجريها "وكالة استخبارات الأمن الوطني الأميركي" التي كان يعمل فيها. كانت القشة التي قصمت ظهر البعير وزادت في تخريب العلاقات التي عادت إلى دائرة الجفاء والتوجس المتبادل. وهكذا صارت العلاقات بين العملاقين النوويين أسيرة الفعل وردّ الفعل وإلى حين. دوّامة مكلفة لما سيترتّب عليها من مضاعفات واحتدام للصراعات في الساحات الساخنة. وبالذات في المنطقة العربية. ولو حصل تعاون فسيكون بالمفرّق وبحكم "الاضطرار" الذي قد يفرضه تقاطع مصالحهما في لحظة معينة. المصدر: البيان 12/1/2014م