منذ بدأت موجات التفاؤل تجتاح المنطقة نتيجة انتخاب باراك أوباما لسدّة الحكم في أكبر وأقوى دولة في العالم ، الولاياتالمتحدةالأمريكية ، منذ ذلك الوقت ، عبّرتُ ، كتابةً وقولاً ، عن يقيني بأن شيئاً جديداً لن يطرأ على سياسة أميركا في الشرق الأوسط بانتخاب أوباما. ولم يكن في باحة الجدل كثيرون مثلي. كانت التوقعات كبيرة ، والآمال عالية ، والقناعات شاسعة بأن أوباما لن يتبع خطى سلفه بوش. ولم يأبه جمهور المتفائلين بكل مواقف الدعم المطلق لاسرائيل التي عبر عنها أوباما خلال حملته الانتخابية ، وكذلك لم يأبه هؤلاء بأن معظم المستشارين المقربين من أوباما قبل وبعد دخوله للبيت الأبيض هم من أكثر اليهود التزاماً بدعم إسرائيل وبدعم البرنامج الصهيوني الذي نشأت اسرائيل على أساسه. فضّل هؤلاء أن يغمضوا أعينهم عن كل هذه الحقائق وأن يمنّوا نفوسهم بأن أوباما مضطر للتعبير عن دعمه لإسرائيل ، وللنفاق للوبي المؤيد لها ، لضمان تأييد الصوت اليهودي ، كما أنهم منّوا نفوسهم بأن أوباما الأسود ، ذا الأصول الإسلامية لن يتنكر لهذه الأصول ، وكان لكلامه المعسول في جامعة القاهرة ومن قبل في اسطنبول فعل السحر على الكثيرين. في خضمّ الحماس لأوباما ولو عوده لم يكن أي متّسع للتشكيك. كنت كلما عبرت عن شيء من الحذر من شرّ الإفراط في التفاؤل واجهت الإصرار أن علينا نحن العرب أن نساعد أوباما لا أن نخذله. علينا أن نعبّر عن دعمنا وتقديرنا لكل إيماءة منه حتى لو كانت فارغة. وذلك حتى لا يقول أعداؤه ، ولا يقول الإسرائيليون إنه حاول مساعدتنا ولكننا أعرضنا عنه وخذلناه فيشمتوا به ونضيّع بذلك فرصة أخرى. ولم يمض وقت طويل حتى تبين أن الوعد كان وهماً وأن الماء الذي تطلّع إليه العطشى للعدالة المفقودة لم يكن إلا سراباً. وقفت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلنتون قبل أيام بجانب نتنياهو لتعّلن أن وقف الاستيطان ليس شرطاً لاستئناف التفاوض بين الفلسطينيين والاسرائيليين واتهمت الفلسطينيين بهذه البدعة بينما كانت ، وكان رئيسها أوباما ، هما اللذان أكّدا من قبل المرّة تلو المرّة بأن على إسرائيل أن تتوقف عن البناء ، كل البناء ، في كل المواقع بما فيها النمو الطبيعي أو البناء الاستيطاني تحت أية ذريعة أخرى. لقد تخلت السيدة كلنتون ، كما تخلّى رئيسها قبلها عن المطالبة بوقف الاستيطان أو تعليقه مؤقتاً كخطوة أولى نحو إعادة التفاوض. والسبب هو رفض إسرائيل للاستجابة للطلب الأميركي. ومن ثم تبنّت الوزيرة كلنتون نفس موقف نتنياهو الذي أعلنه أكثر من مرّة وهو: 1. استثناء القدس من أي خطرْ على البناء الاستيطاني كونها "العاصمة الأبدية لإسرائيل" ولا حق لأحد أن يتدخل في إجراءات إسرائيل داخل حدود مدينة القدس كما رسمتها إسرائيل لتشمل أكثر من %20 من أرض الضفة الغربية. 2. استثناء جميع مشاريع البناء التي تم إقرارها. 3. استثناء توسيع المستوطنات القائمة إذا كان ذلك التوسيع يعني بناء مرافق عامّة. 4. المباشرة بالتفاوض مع الفلسطينيين بدون شروط مسبقة. لقد تبنّت الوزيرة كلنتون نفس هذا الموقف الذي يعني تسريع عمليات البناء كما يعني تشجيع إسرائيل على المضيّ قدماً بتوسيع مشاريعها الاستيطانية. وماذا كان ردّ فعل الإدارة الأميركية والرئيس أوباما على رفض إسرائيل لكل طلباتها؟ كان الردّ هو التراجع عن الطلب والضغط على السلطة الفلسطينية للتراجع عن المطالبة بوقف الاستيطان كشرط لاستئناف التفاوض ، وبالإضافة لذلك ، ردّدت كلنتون اتهام الاسرائيليين للجانب الفلسطيني بأنه يعرقل التفاوض بافتعال شروط مسبقة. بموجب المنطق الأميركي الإسرائيلي الجديد ، فإنه يتوجب على السلطة الفلسطينية ممثلة برئيسها محمود عباس أن تتوجه إلى طاولة التفاوض بينما تستمر إسرائيل في بناء المستوطنات وتهويد ما تبقى من أرض فلسطين. إذن على ماذا سيتفاوض الجانب الفلسطيني ، وما هي الفرص المتبقيّة للحصول على أي شيء للجانب الفلسطيني. المطالبة الفلسطينية بوقف الاستيطان لا تعتبر شرطاً مسبقاً لأن الاستيطان يمثل خرقاً للقانون الدولي. وبالتالي فإن على الأممالمتحدةوالولاياتالمتحدة واللجنة الرباعية وكل المؤسسات المعنية بتطبيق القانون الدولي أن تلزم إسرائيل بوقف الاستيطان وأن تتوقف عن انتهاك حرمة القانون الدولي حتى لو لم يكن هناك أي تفاوض. كما أنه من الخطأ أن فاوض الفلسطينيون من قبل بينما كانت إسرائيل تواصل بناء المستوطنات وتواصل بناء الجدار الذي شرذم الأرض ودمّر أواصر التواصل بين الناس. لماذا الآن يصر الجانب الفلسطيني على المطالبة بوقف الاستيطان ولم يطالب بذلك من قبل ، ولماذا وافق الفلسطينيون في أوسلو على صيغ فارغة لم تشمل ولم تطالب ولم تصرّ على وقف الاستيطان بكل أشكاله قبل المباشرة بأي تفاوض. هذه أسئلة هامّة يجب أن توضع في مقدّمة أي حوار حول التردّي الذي وصلت إليه "عملية السلام" ليس فقط بالصلف الإسرائيلي وبالنفاق الدولي وبالانحياز الأميركي ، بل وبالتقصير الفلسطيني العربي الفاضح أيضاً. ما نسمعه الآن هو أن عباس رفض ما طلبته منه وزيرة الخارجية الأميركية بأن يستأنف التفاوض وأن لا يأبه برفض إسرائيل التوقف عن البناء. وإن كان هذا تصويب متأخر لمسار خطأ من أوله لآخره ، فالأمل أن لا يصار للتراجع عن هذا الرفض كما حصل إبان فشل مساعي جورج ميتشل بإقناع إسرائيل بالقبول بتأجيل مؤقت لعمليات البناء ، ومع ذلك توجه عباس إلى نيويورك للقاء أوباما ونتنياهو ، وتمّت لقاءات لمفاوضين فلسطينيين أخرى في واشنطن بعد لقاء نيويورك ، للتغطية على الفشل الأميركي ولتمكين الإدارة الأميركية من تحقيق نجاحْ ما. لا يمكن ، ولا يجوز أن يتم أي تفاوض في ظل التعنّت الاسرائيلي القائم ، وفي ظل تراجع إدارة أوباما عن طلب لا يغطي سوى جزء بسيط وصغير من حجم القضيّة. فالمسألة ليست وقف الاستيطان بل إزالة كل ما بني على أرض فلسطين منذ عام 1967 لأنه غير شرعي وغير قانوني ويشكل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي كما يمثل اعتداءً على أرض الفلسطينيين وحقوقهم ، فوق العدوان المتراكم والحقوق المنتهكة منذ عام ,1947 إن تراجع أميركا ، كما أكدته الوزيرة كلنتون ، وكما حاولت أن تقنع به الفلسطينيين والعرب ، يمثل سابقة بالغة الخطورة. فالصمت الأميركي على مشاريع الاستيطان في القدس يعني الاستسلام لمنطق نتنياهو ومن قبله أولمرت وهو أن القدس هي "عاصمة الدولة اليهودية الأبدية الموحّدة" ولا يحق لأحد أن يتدخل في أية إجراءات لإسرائيل في المدينة. والقبول الأميركي ببناء آلاف الوحدات السكنية الاسرائيلية الاستيطانية بحجّة أن هذه المشاريع قد أقرّت من قبل هو أيضاً قبول بشرعية الاستيطان وحصر الخلاف بالبناء الجديد دون التعرّض للمستوطنات القائمة ولما بني على أرض فلسطين من قبل. وتلك سابقة خطيرة أخرى تشكّل تدميراً لأهم الأسس القانونية التي يجب أن يستند إليها التفاوض عندما تتوفر الظروف الملائمة للتفاوض. نعم لقد وصلنا إلى طريق مسدود. ولقد انتهت كل الآمال التي بنيت على أوباما ووعوده وانكشف الغطاء عن كل ما كان كثيرون يعقدون أنه قابع في جعبة أوباما بانتظار حلول الوقت المناسب لإخراجه ومفاجأة أهل المنطقة به. وماذا بعد؟ ألا يستحق ذلك لقاءً عربياً جادّاً على مستوى القمة ، أو على مستوى وزراء الخارجية لتقييم هذا المحصول السيءّ ، وهذا المأزق الخطير الذي وصلت إليه عملية السلام البائسة الخائبة التي لم تأت إلا بالمزيد من تراجع المواقف العربية وتآكل الحقوق الفلسطينية. عندما انتخب الإسرائيليون حكومة يمينية متطرّفة عنصرية تنبأ المتفائلون بأن المجتمع الدولي سيرفضها ويقاطعها. ولكن المجتمع الدولي رحب بها واستقبل ليبرمان في العواصمالغربية رغم عنصريته وتطرفه المعلنان. وها هو الثنائي نتنياهو وليبرمان يحظى بكل الدعم لمواصلة الاستيطان بلا قيودْ وبلا تحفظات بل وبتأييد أميركي واضح وبائن. حاولت الوزيرة كلنتون أن تخفف لاحقاً من وطأ وصفها لموافقة إسرائيل على"التريّث" "restraint" في البناء في الضفّة الغربية بأنه تنازل إسرائيلي غير مسبوق وأن تبيع هذا المفهوم للعرب ، حاولت أن تخفف من وطأ ذلك بالقول إن سياسة أميركا بصدد الاستيطان لم تتغير. فهل نفهم من ذلك أن الموافقة الأميركية لإسرائيل الآن على مواصلة الاستيطان على الأرض العربية المحتلّة ، هي استمرار لسياسة أميركا الثابتة بالموافقة على الاستيطان. تلك السياسة التي أعلنت اسرائيل أنه كان متفقاً عليها مع إدارة بوش السابقة. يجب أن نذكرّ أن الرئيس بوش سلّم رسالة خطية لشارون في نيسان 2004 يعترف بموجبها بحق إسرائيل في الاحتفاظ بالمستوطنات عند التوصّل إلى أية تسوية. وبعد ذلك ادّعت إسرائيل بوجود تفاهم لاحق يقضي بأن تتغاضى واشنطن وتصمت عن أية عمليات بناء جديدة. ألا تؤكد مواقف الإدارة الحالية كل ذلك. ألا يحق لنتنياهو ولليبرمان أن يحتفلا بالنصر والارتياح الكامل بعد كل القلق والتحسّب مما كان يروّج بأن إدارة أوباما ستأتي به لتغيير المعادلة القائمة. المصدر: الدستور 10/11/2009