فجأة تصدرت أوغندة صفحات الصحف الغربية ونشرات الأنباء في كبريات القنوات التلفزيونية . لم يتعلق هذا الاهتمام المفاجئ بعمليات التعذيب التي تجري ضد المعارضين لحكم الرئيس موسيفيني، أو بفضائح الفساد الصارخ في أجهزة الدولة وداخل حركة المقاومة الوطنية، الحزب الحاكم هناك، ولم يتعلق بالعنف الذي تمارسه مؤسسات الأمن الوطني ضد المتظاهرين أو بتجاهل مطالب الفقراء والمحتاجين . اقتصر الاهتمام على خبر واحد، خبر توقيع موسيفيني على تعديلات في قانون تشدد العقوبات على كل من يروج لأفكار وممارسات ومنظمات لها علاقة بأنشطة المثليين والمثليات في أوغندة، هؤلاء الذين اختاروا نوعاً مختلفاً من الحب يختلف عن النوع الذي تعارفت عليه الأجيال عبر القرون ورفضت أن تعترف بغيره . أغمضت العيون على امتداد التاريخ عن أقلية في كل المجتمعات تمارس هذا النوع الآخر من الحب . لا جديد في واقع الأمر . فالاستعمار الإنجليزي كان أول من قنن في إفريقيا تجريم ممارسة الحب المثلي، إن صح التعبير . بل إنه في أوغندة ذاتها صاغ الحاكم الإنجليزي قانوناً ضد ممارسة هذا النوع من الجنس عندما أمر الملك "موانجا الثاني" في عام 1886 بإعدام اثنين من المبشرين الإنجليز انتقدوا علناً علاقاته المثلية . وفي الهند يوجد منذ أيام الإنجليز قانون بهذا المعنى وتجري الآن إضافة مواد تشدد العقوبة، وهناك حسب إحصاءات الأممالمتحدة أكثر من 78 دولة في العالم تحرم هذه العلاقات . وبعضها يقر الإعدام عقوبة لمن يمارسها . بدأت حملة تصعيد العقوبات في الهند في ديسمبر/ كانون الأول الماضي . وبعدها أقدمت نيجيريا على إدخال تعديلات مشابهة ثم تلتها أوغندة ومعها في الوقت نفسه تقريباً روسيا . إذ قرر الرئيس بوتين معاقبة كل المنظمات والأفراد الذين يضبطون وهم يشجعون الشباب خلال الأولمبياد الشتوي على ممارسة هذا النوع من الجنس . كان واضحاً في ذلك الحين أن بوتين أراد استباق حملة غربية كان يجري الإعداد لها للتشويش علي أولمبياد سوتشي، ضمن اعتقاده أن الغرب يدبر لنظامه خططاً عدائية . ومع ذلك كان يمكن أن تمر هذه التطورات من دون جلبة شديدة لو توفرت النوايا الطيبة وتصرفت كل الأطراف بهدوء وابتعدت عن الإثارة . بمعنى آخر، كان يمكن أن يبقى الأمر شأناً داخلياً، أو التعامل معه بقدر من الحساسية، خاصة أن أغلب الثقافات العالمية ما زالت محافظة أو رافضة لأفكار وممارسات تأتي من الغرب وتفوح منها رائحة التدخل أو الرغبة في إثارة الفوضى . لا جديد كما ذكرتُ سوى هذه الهستيريا الدبلوماسية والإعلامية التي رافقت صدور هذه القوانين وتعديلاتها . فجأة، وبفضل هذه الهستيريا، أصبحت العلاقات الجنسية التي يمارسها المثليون موضوعاً يتصدر اهتمامات الدبلوماسية العالمية . لم نسمع، أو نقرأ، على مدى عقود من متابعة دقيقة للدبلوماسية الدولية، عن أن علاقات من هذا النوع كانت موضوع نزاع أو صراع أو مفاوضات بين دولتين . قرأنا حكايات وأساطير عن جماعات وأمم مارستها، وأغلبها تناقلتها الأجيال في صيغ الاستنكار، وبخاصة ما ورد منها في الروايات المقدسة . جرى العرف، وما زال يجري، على اعتبار هذه العلاقة أمراً شديد الخصوصية، مثلها تماماً مثل علاقات حب أو جنس تقوم بين رجل وامرأة لا تربطهما روابط تعاقدية أو شرعية . أمر لا يجوز أن يتحدث فيه الناس . وبالفعل ندر أن تجد بين الصحف الإفريقية والآسيوية صحيفة كالمئات، بل الآلاف من صحف الغرب، متخصصة في كشف العلاقات الغرامية وبخاصة تلك التي يتورط فيها مسؤولون ومشاهير . هذه المفارقة تفسر جانباً من الهستيريا الإفريقية والروسية والصينية والهندية ضد الإعلام الغربي المدافع عن حقوق المثليين والمثليات، كانت هذه المفارقة، ومازالت، تلعب دوراً مهماً في تجديد الأحقاد المتبادلة بين شعوب الغرب من ناحية، وشعوب الشرق والجنوب من ناحية أخرى . لقد أريق خلال الأسابيع القليلة الماضية حبر غزير في الكتابات الغربية والإفريقية عن "النفاق"، بل أكاد أعتبر أن ما تبادلته الدبلوماسية الغربية ودبلوماسيات أخرى وما تبادلته أجهزة الإعلام تجاوز في بعض الحالات حدود الاعتدال مخترقاً الحد الفاصل بين لغة مراحل السلم ولغة الحرب الباردة . لقد شاب موقف موسيفيني تحديداً، وكذلك موقف بوتين، وهجومهما على الغرب لتدخله في قضية المثليين والمثليات، درجة متقدمة من النفاق . كلاهما يسعى لإثارة "قضية وطنية" تجتمع الأمة حولها وتقف داعمة لنظام الحكم، كلاهما يتعرض لاتهامات خارجية ومشكلات عبر الحدود ويريد حشد الدعم الداخلي لتسوية حسابات معقدة، وكلاهما حريص على المحافظة على مكتسباته الدولية التي حققها من خلال تطوير علاقاته بالولاياتالمتحدة وتحالفاته مع دول أخرى في الغرب . لا يختلف اثنان من المتخصصين في العلاقات الدولية على أن موسيفيني حليف طويل الأمد لأمريكا، ويلعب لمصلحتها دوراً رئيسياً في جنوب السودان والصومال والاتحاد الإفريقي، ولا يختلفان على أن بوتين استعاد بعض المكانة لبلاده بفضل مشاركته أمريكا في مفاوضات حول الصراع في سوريا وحول قضايا إيران النووية وبرامج تسلح كوريا الشمالية . من الناحية الأخرى، يبدو النفاق أشد وضوحاً في المواقف الغربية، فالغرب لم يقدم خلال 28 عاماً من حكم الدكتاتور موسيفيني على التهديد ولو مرة واحدة بقطع المعونة الاقتصادية احتجاجا على عمليات التعذيب والاعتقال وقضايا الفساد، ومع ذلك هددت الأسبوع الماضي بوقف تنفيذ المعونة التي تتعدى مبلغ 480 مليون دولار، وأوقف البنك الدولي صرف مبلغ تسعين مليوناً، احتجاجاً على قانون المثليين والمثليات الذي قرر الرئيس الأوغندي سنّه . خرج جون كيري وزير الخارجية الأمريكية ليعلن للعالم بمبالغة مثيرة للسخرية أن ما يحدث في أوغندة ضد المثليين والمثليات "أقرب شيء ممكن إلى نظام التفرقة العنصرية، الأبارتهايد"، في جنوب إفريقيا، ويخرج البيت الأبيض في واشنطن ببيان يهدد فيه شعب وحكومة أوغندة بأن صدور هذا القانون "سوف يجعل علاقات أوغندة بأمريكا علاقات معقدة" . استمرت الهستيريا تتصاعد . في ميتشيغن مثلاً، الولاية الأمريكية الباحثة عن مستقبل لمدينة ديترويت، العاصمة التقليدية لصناعة السيارات، التي أفلست ورحل عنها سكانها، قرر المحافظ دعوة خمسين ألف مثلي ومثلية من أوغندة وروسيا لاستيطان ديترويت وتعميرها . يتصور المحافظ أن بشراً من هذا النوع يستطيع أن ينشئ "مدينة الأحلام" لتحل محل مدينة ديترويت . هذه الأقلية، يراها المحافظ نموذجاً "للطبقة الخلاقة" . وفي أريزونا أثير موضوع زواج المثليين والمثليات، وشهدت الولاية نشاطاً منقطع النظير من جانب ممثلي كبار رجال الأعمال والمال الذين وقفوا مؤيدين هذا النوع من الزيجات، في مواجهة صريحة مع قوى الكنيسة والقوى المحافظة الأخرى . هستيريا في إفريقيا وهستيريا في الغرب، وبخاصة في أمريكا . والمؤكد، كما يقول صحفي أمريكي كبير، أن الخاسر في النهاية هو هذه الأقلية التي يدور حولها الصراع الجديد من الغرب والشرق . لقد أدى الهياج الغربي حول الموضوع إلى إثارة غضب الشعب الأوغندي الذي اعتبر التدخل الغربي نوعاً من الاستعمار الجديد، مدعماً رأي موسيفيني أن هذا التدخل ما هو في الحقيقة سوى "إمبريالية اجتماعية"، أي محاولة جديدة من الإمبريالية الغربية لفرض الهيمنة عن طريق إجبار شعوب إفريقيا على ممارسة سلوكات غربية معينة . انتفع من هذا الغضب عناصر غوغائية في أوغندة مثل صحيفة "الفلفل الأحمر" التي نشرت قائمة بأسماء عدد من الشخصيات الأوغندية المعروفة بميولها المثلية، الأمر الذي ضاعف من خطورة الأزمة ومن وضع الأقلية المثلية في أوغندة، وتدهورت أكثر حين خرج أحد "المهووسين" في البرلمان الاسكتلندي يقترح منح حق اللجوء السياسي لمن ورد اسمه في هذه القائمة . أقدر تماماً مواقف أصحاب النوايا الحسنة في الغرب حين يقيمون الدنيا دفاعاً عن حقوق الشعوب في كل مكان، وكشف تجاوزات الحكومات في تعاملها مع خصومها من السياسيين والشباب، ولكني أعرف أن هناك من يستتر بالنوايا الحسنة لتحقيق مصالح خاصة، كتلك الجمعيات والمنظمات التي يمولها أغنياء كبار في الولاياتالمتحدة، أو التي يدعمها ممثلون ومطربون في هوليوود وغيرها، وكتلك المؤسسات التي تسعى فعلاً لاستعادة الهيمنة الإمبريالية وتطويرها أو الحفاظ عليها، هؤلاء جميعاً، يبالغون أحياناً ويتجاوزون، وبهذه المبالغات والتجاوزات يدفعون بالعلاقات الدولية إلى حافة التوتر، وربما الحروب . المصدر: الخليج 13/3/2014م