"أم جرس" مدينة شبه نائية الموقع، حيث تقع بالقرب من الحدود التشادية السودانية ضمن مقاطعة إقليم وادي هور، ونذكر، بأن منطقة وادي هور سبق وأن الرئيسين ديبي والبشير إفتتحا فيها مشروع سد للمياه من بعد أن جرفته الأمطار وانتهي المشروع الإنمائي هناك وقبل ذاك العهد لم يسمع أحد باسم "أم جرس" كمدينة بهذا الزخم السياحي. مدينة "أم جرس" التشادية تلك المدينة الحالمة التي شيدها ديبي بنفسه في قلب الصحراء القاحلة وبعيدة كل البعد من الأحداث، حيث تتوفر فيها كل سبل الحياة أكثر من أي مدينة أخرى في البلاد، وربما العيش الرغد فيها أحسن من العاصمة أنجمينا ذاتها، وتعد "أم جرس" شبه قرية أمنية مصغرة ومحصنة من الناحية الأمنية بحسابات أجهزة الأمن، لكونها قريبة من الحليف السودان. وتتميز هذه المدينة الصغيرة بهدوئها وجمالها الأخاذ وهي من أكثر المدن التشادية خصوبة" من الناحية الأمنية والمالية إذ ترتبط بالرئيس ديبي وعشيرته ويحددها من الشمال مناطق " التبستي"، وترتبط في ذاكرة السودانيين بأنها المنطقة التي انطلقت منها عملية الذراع الطويل التي نفذتها حركة العدل والمساواة في مايو 2008م، لتعود بعدها علاقات البلدين أقوى مما كانت عليه. ظهرت على سطح الإعلام في الآونة الأخيرة وهي مقترنة بالحراك السياسي الكبير الذي يقوده بعض القياديين من أبناء دارفور في إطار مبادرة مشتركة يقف عليها الرئيس التشادي ديبي لجمع صف الحركات المسلحة لغرض إدارة حوار وطني يتم من خلاله حلحلة الأزمة الأمنية في إقليم دارفور، وكانت البداية في فبراير الماضي قد استهدفت أبناء قبيلة الزغاوة كمرحلة أولي. وعلى ذكر قبيلة "الزغاوة" التي تمتد بين حدود البلدين كواحدة من القبائل الكبيرة في المنطقة، فإن عدداً كبيراً من "المسلحين" بإقليم دارفور تعود أصولهم "العرقية" أو "ارتباطاتهم الميدانية" بالعمليات للتوجيه السياسي المنطلق من تنظيمات لها صلة بها، حيث ينحدر منها مؤسس حركة العدل والمساواة الراحل خليل إبراهيم وأشقاؤه وكذلك القيادي مني أركو مناوي وآخرون. خاصة وأنه في هذه الأيام تشهد مدينة أم جرس إنطلاقة الملتقي الثاني لحركات تمرد دارفور في إطار المبادرة التشادية مع الحكومة السودانية عبر وساطات عديدة كان قد صدر قرار رئاسي بالخرطوم يقضي "بتوحيدها" كقنوات اتصال بينها وبين هذه الحركات التي لاحت في الأفق "إشارات" تقبلها لهذه المبادرة في أطوار البحث والقراءة الأولي التمهيدية للتفاوض. اكتسبت مبادرة الرئيس ديبي أو "ملتقي أم جرس للحوار" أهميتها الكبيرة من كون أنها تنطلق من جذور سياسية ثابتة على خلفيات معرفته الشخصية بقادة هذه الحركات وبتوفر قدر كبير من الاحترام المتبادل بينه وبينهم لأواصر وعلاقات رحم تجمعه ببعضهم على ضفة الحدود الأخرى وذلك تكون علاقته المتميزة بالرئيس البشير سبباً أكثر قوة ومعقولية في هذه المرحلة. كما أنه يتوجب علينا أن نشير إلى أن الحكومة التشادية تكسب الكثير من الناحية الأمنية في حال حدوث استقرار للأوضاع الأمنية في إقليم دارفور حيث أنها ظلت ولسنوات طويلة تعاني من هذه الآثار الجانبية للحرب هناك، فضلاً عن آلاف اللاجئين من دارفور على أراضيها، تكون مشكلة "السلاح السائب" دون رقيب هي ما يؤرق السلطات الأمنية في الجارة الغربية تشاد. كل هذه الأسباب مجتمعة، جعلت من فكرة ((القوات المشتركة)) بين دولتي السودان وتشاد ناجحة وعلى قدر كبير من الأهمية الإستراتيجية ويري بعض المراقبين أنها غيرت كثيراً على مستوي "مسار الأحداث الدامية" بإقليم دارفور بنسبة مئوية كبيرة في رصد الإنتهاكات والتفلتات "الإجرامية" غير المتصلة بمطالب الحركات المسلحة في مجال الجريمة المنظمة مثل التهريب تحديداً. أما فيما يتعلق بالوساطة التشادية بين حركات تمرد دارفور والحكومة السودانية. فإنها تأتي بعد أن تهيأت الأجواء "بعد أحد عشر عاماً" لتفهم حقيقة أن الحرب ودورة الدم والعنف ليست هي الحل لمشكلات التنمية في الإقليم، وان الذي تم إهداره من أرواح عزيزة وغالية من أبناء هذا البلد ووقت ثمين وأموال طائلة في التسليح لم يكن يدعم "حظوظ" أحد سوى " تجار السلاح" والشيطان. كما أن الانحرافات السلوكية التي طفت على السطح في الآونة الأخيرة، بإنقلاب الصراع السياسي بين حركات التمرد "المعلنة" والمعروفة "عبد الواحد" أركوي" كاربينو، جبريل إبراهيم" على "جنبته القبلية" التي لا تربح بطبيعة الحال، ما دفع بهؤلاء القادة للتفكير الجدي في "إعادة النظر" في صراع دارفور من زاوية السياسة حتى لا تتشوه "رؤاهم السياسية". ويهتم الجانب التشادي بهذا الانقلاب السلوكي في صراع دارفور لأنه الأسرع في الانتقال عبر الحدود إلى الداخل التشادي، وذلك لأن الإرتباط النسيجي للمجتمعات المحلية بين البلدين لا يعرف الفواصل والحدود المصطنعة، وصراع القبائل الذي وصفه الفريق عبد الرحيم محمد حسين بأنه الأسوأ والأدهى من "تعاملهم مع التمرد" في دارفور كظاهرة شديدة التشظى والتناثر في المنطقة. وتكتسب حالة "التجمع والتداول السياسي" بين مكونات القوى السياسية في دارفور داخل مدينة "أم جرس" اليوم حضوراً خاص في فضاءات الأزمة الأمنية بإقليم دارفور، في أن هذه الأطراف قد بدأت في الإمساك برأس خيط "الحل السياسي" في الإقرار العلني من قبل بعض قادة هذه الحركات "بعدم جدوى الحرب" وبحثها الجاد عن حلول سياسية حقيقية وعادلة لهذه الأزمة. ليكون من المتوقع أن يستجيب الرئيس البشير في كلمته التي سيلقيها في هذا الملتقي اليوم لطلب بعض قادة هذه الحركات في "النظر في إصدار عفو عام" عمن يحملون السلاح ضد الحكومة وإلغاء بعض الأحكام والترتيب لإجراء وقف إطلاق نار شامل بالإقليم والانخراط الفوري في "محادثات سياسية" يتم خلالها "توفق أوضاع هذه الحركات" وفقاً لصيغة إتفاق "مفتوح" ومرن دون قيود محددة. وكذلك يكون من المتوقع أن يتوجه الرئيس إدريس ديبي بخطابه لحركات دارفور "كافة" بأن يتم إعلان "ضمانته" الشخصية مع آخرين في المجتمع الدولي والإقليم لأي نتائج سيتم التوصل إليها بين الحكومة وهذه الحركات على أن يتم تحديد جدول زمني لانطلاق هذه المحادثات في الشهر القادم في حال اكتمال "ترتيبات المحادثات السودانية. السودانية" التي ستكون "مباشرة" بينهما. وفي هذه اللحظات والأنظار تتجه ناحية مدينة "أم جرس" هذه المدنية التي وجدت مثل "أيقونة" سحرية تحفظ أسرار الحرب والسلام في دارفور مثل "الجدة في الفناء الخلفي للبيت الكبير في ليلة مقمرة"، هل ستكون حركات دارفور بمختلف مسمياتها وفصائلها قد بدأت في الاستجمام على وقع نسمات الوادي الصحراوي هناك دون أن يكون هناك ما يعكر صفوها من "تدخلات أجنبية؟!. ويبدو أن الحكومتين السودانية والتشادية كانتا على علم مسبق بأن "اليد الأجنبية " تدير مؤشر المحادثات باتجاه "التعنت" والرفض غير المبرر فجاءت بأهل دارفور أنفسهم وفي داخل المدينة التي يعرفونها وتعرفهم منذ أمد بعيد ليكونوا في "بيتهم تماماً" فليس أقل من أن تتوقف لغة البندقية ويجتمع الفرقاء ليومين في سبيل أن يكون سلام دارفور هو (القضية الكبرى) والأولي والأخيرة بالنسبة للجميع. نقلاً عن صحيفة الصحافة 2014/3/27م