انضم فجر الثلاثاء الماضي مركز شرطة الصابري إلى سلسلة مراكز الشرطة في مدينة بنغازي ثاني أكبر المدن الليبية، التي تحولت إلى ركام و خرائب لتجمع القمامات بعد أن دكّت وسويت بالأرض، جرّاء نسفها بعبوات شديدة الانفجار ،ليس لمرة واحدة بل مرات مرات . مدينة بنغازي التي نتحدث عنها ليست مدينة نائية ، وليست مدينة فقيرة، وليست مدينة قليلة السكان.مدينة تجسّد اللحمة الوطنية بكل أطيافها، مدينة كل الليبيين ، كما يقولون عنها «رباية الذايح» و ملتقى الشعراء و الفنانين مدينة الطرب الليبي الأصيل و الأصوات الجميلة و الألحان العذبة . مدينة بنغازي هي المدينة التي استقبلت أم كلثوم و نجاة وفايزة أحمد ووردة الجزائرية، هي الجامعة التي درس في كلياتها : عبد الرحمن بدوي و ناصر الدين الأسد و أديب نصور عبد الرزاق السنهوري و الشاعر علي محمد أحمد صاحب قصيدة أرأيت سوسة و الأصيل يلفها و أحمد فتحي شاعر الكرنك و قصة الأمس. بنغازي التي استقبلت كبار المقرئين للقرآن الكريم. بنغازي التي أسس مسرحها سيد راضي و أسس فرقتها الموسيقية عطية شرارة و أحمد الحفناوي. بنغازي التي يغتالها الموت الخسيس في كل يوم ،هي مدينة الثقافة و الفنون و المسرح ،و السينما. هي من لحّن بين أحضانها بليغ حمدي أعذب ألحانه، و شدت على مسرحها أصالة وإليسا و راغب علامة و تامر حسني .. بنغازي التي اغتيل فيها بالأمس فقط سبعة أشخاص ، و قيدت الجرائم ضد مجهول،بها أعرق مفوضية للكشافة في الوطن العربي ، وكانت تصدر في منتصف الستينيات أكثر من عشر صحف كبيرة ،بعضها باللغة الإنكليزية و الفرنسية.هي مدينة الكاتب الكبير صادق النيهوم و شاعر الغضب محمد الشلطامي . في شهر رمضان اعتاد أهلها الخروج من منازلهم و التسوق حتى وقت السحور ، والتسامر مع الأقارب و الأصحاب حتى ساعات الفجر .في رمضان هذا العام تنكفىء المدينة على نفسها ، يحيطها الذعر من كل مكان ، ويلفها كابوس مقيت .حيث تنسفك الدماء على الطرقات في الشوارع الرئيسة، ويقتل الناس في جميع الأوقات .بالأمس القريب اغتيل مواطن بوابل من الرصاص أمام متجر كبير لملابس الأطفال ،الأمر الذي أثار حالة من الذعر بين رواد المتجر و الأهالي وإن كانوا بأعداد بسيطة. لم يعد في المدينة سوى مركز شرطة يتيم يعمل «مركز الفويهات» وهو الوحيد الذي لم يتعرض لأي هجوم ، وهو المركز الذي توفي فيه المواطن المصري حارس فيلا المحامية المغدورة سلوى بوقعقيص . وصار بقاء هذا المركز دون تفجير ، هو الذي يثير التساؤل حول انتماءات بعض عناصره. تمّ تفجير مركز شرطة البركة و مركز راس اعبيدة و مركز القوارشة و مركز الفويهات و مركز الصابري . مدينة يتجاوز تعدادها المليون نسمة . تعيش حالة غير مسبوقة من الانفلات الأمني. مئات الجرائم تكاد تلامس سقف الألوف جميعها قيد ضد مجهول و المجهول يقتل ووجه مكشوف لا يخشى و لا يخاف ، و لا يجرؤ أحد على التصدي له.لم يفتح تحقيق واحد في جريمة واحدة. و مع ذلك الميزانيات المرصودة لوزارة الداخلية و الدفاع تجاوزت ثمانية مليارات رواتب فقط لمنتسبي هاتين الوزارتين. لقد التقت مصالح التنظيمات المتشددة و في صدارتها أنصار الشريعة و الميليشيات المسلحة و كتائب الثوار التي قارب عدد منتسبيها مئتي ألف ،التقت مصالحها للحؤول دون قيام شرطة أو الجيش. و من هنا نفهم التقارب ولو المرحلي بين قادة الدروع «الميليشيات المسلحة» وتنظيم أنصار الشريعة و التصدي لقوات الجيش الليبي بقيادة اللواء المتقاعد خليفة حفتر التي تشارك فيما سمي بعملية «الكرامة» و نتيجةً لحالة الانفلات الأمني الخطيرة ، غادر كثير من العائلات منازلهم التي تقع في مناطق الاشتباك و اضطروا لمقاسمة أقاربهم بيوتهم ، ما شكّل حالة من الضيق و الارتباك في حياتهم، و بعض المواطنين غادر إلى مدن مجاورة لمدينة بنغازي أكثر أمنا، وقطاع آخر غادر البلاد إلى أقطار مجاورة أو إلى تركيا كونها تسمح بالدخول من دون تأشيرة. هذه ملامح مدينة بنغازي التي فجّرت الثورة قبل ثلاث سنوات، هذا حلمها يستحيل كابوسا ،و هذه قسماتها الكئيبة و هذا رمضانها، مدينة تحت قبضة المجرمين و المتشددين و قادة الدروع المتمترسين.مدينة دمرت – تقريبا – جميع مراكز الشرطة فيها .مدينة لا يوجد بها أي ملمح لمؤسسات الدولة الشرطية أو الجيش ماعدا تلك الاشتباكات التي تقض مضاجع سكانها و تصم آذانهم ليل نهار . المصدر: القدس العربي 10/7/2014م