هل لمشاريع المياه والبناء والإنشاء، أي حضور في هذه الفترة العصيبة من حياة المنطقة العربية؟ وهل أبقت التغييرات والانقلابات والصدامات والحروب، مشاريع المياه في خطط أي جهة رسمية، أو جهات الأمر الواقع التي فرضت نفسها في مناطق وأقاليم هذه المنطقة التي ضربها زلزال التطرف، والتي لم تستقر على حالها بعد، وما زالت ارتداداته تتوالى بين فترة وأخرى وفي مناطق عدة؟ هكذا وبدلا من إقامة مشاريع أو التخطيط والتفكير في إقامتها، فإن مخاوف وأخطارا، ومحاولات حجز وتعطيل وتلاعباً وتغييراً في مشاريع ومجاري الأنهار وفروعها وجداولها في المنطقة العربية تتوالى، حيث تمت وتتم تلاعبات وقطع وحجز للتوصيلات الكهربائية الناتجة من مشاريع المياه، وتم التوقف عن المضي قدما في إنشاء مشاريع لإقامة سدود لتوليد الطاقة الكهربائية، وإقامة مشاريع لزيادة وتحسين مياه الشفة، والري والزراعة؛ كما حصل على سبيل المثال لسد «الصداقة» الذي كانت تركياوسوريا بصدد إنشائه في العام 2011، بعد أن عطلت إقامته الاضطرابات التي أخذت تتوالى في سوريا. وكان السد سيقام على الحدود المشتركة بين سورياوتركيا في منطقة الاسكندرون (هاتاي) على نهر العاصي، الذي ينبع من الأراضي اللبنانية، ويصب في البحر الأبيض المتوسط، بعد أن يسير مسافات طويلة في الأراضي السورية. كما أن سد «اليسو» التركي الذي كانت منشآته ستنتهي افتراضا في العام 2014 على نهر دجلة، وينبع من الأراضي التركية، ويبلغ طوله نحو 1900 كلم مع تعرجاته وخوانقه، يسير نحو 1418 كلم من جريانه في الأراضي العراقية، كما ويكون هذا النهر حدودا مشتركة بين تركياوسوريا تصل إلى مسافة 44 كلم، وهو يقام على مسافة نحو 50 كيلومترا من الأراضي السورية. وحتى نتعرف على مدى أهمية هذا النهر لسورياوالعراق، فإن الوارد السنوي من مياهه لسوريا مع فروعه، يصل إلى نحو 18،3 مليار متر مكعب من أصل إيراده السنوي مع روافده، التي تتراوح بين 50 و60 مليار متر مكعب. وتبلغ مساحة حوض نهر دجلة نحو 47 ألف كلم مربع، من بينها نحو 12 في المئة منه في تركيا، ونحو 0،2 في سوريا، ونحو 54 في المئة في العراق، ونحو 34 في المئة من الحوض في إيران، وللنهر روافد رئيسية تنبع من جبال زاغروس في إيران. ويعتبر «سد أليسو» من السدود الكبيرة على نهر دجلة، حيث يبلغ طوله نحو 1820 مترا ويصل ارتفاعه إلى نحو 135 مترا، وسيؤثر إيجابا على الحياة والتنمية في الجنوب التركي، وسلبا على الحياة والتنمية في سورياوالعراق، وعلى الرغم من التأكيد بأن أغلب منشآته هي لتوليد الطاقة الكهربائية، إلا أن للري والزراعة والمشاريع الصناعية لها نصيبها في هذا المشروع، الذي غابت أخباره عن أجهزة الإعلام ، ولم يتم الإعلان عن الانتهاء من بنائه، أو أن الأحداث الأخيرة في المنطقة أخرت إنجاز بعض منشآته بينما تم الإعلان عن إقامة «سد جزرة» في المناطق الشار إليها أيضا. كما أن إقامة عشرات السدود والمشاريع المائية والكهربائية على نهر الفرات الذي ينبع من الأراضي التركية، ويسير فيها ليدخل الأراضي السورية، ثم الأراضي العراقية، ليلتقي بنهر دجلة ويكونان شط العرب، وليصب في الخليج العربي. هذا النهر الذي يعتبر شريان حياة في تركياوسورياوالعراق، والذي أقيمت عليه عشرات السدود والمشاريع المائية والكهربائية، كما للري والزراعة والصناعة ومياه الشرب وغيرها، يتعرض إلى ادعاءات ومواقف وخطوات عملية من قبل الأتراك، من نوع إنه ليس نهرا دوليا عابرا للحدود! لذا فإنهم أحرار في التحكم بمياهه من دون مراعاة مصالح البلدان التي يمر بها، وقد تم حجز مياه هذا النهر لمدة شهر بعد تنفيذ سد أتاتورك – من أكبر السدود في تركيا – وعاشت سورياوالعراق في أسوأ الظروف أثناء حجز مياه هذا النهر، كي يمتلئ سده وبحيرته ويجري تنفيذ مشاريعه الأخرى. وكي ندرك الخطورة الفائقة التي يمكن أن تترتب على السياسات التركية في مجال التحكم بمياه الفرات ودجلة، يمكن إيراد التصريح الخطير الذي أدلى به الرئيس الأسبق سليمان ديميريل، أثناء افتتاح سد أتاتورك، حيث قال «إن ما يعود لتركيا من مجاري مياه الفرات ودجلة وروافدهما هو تركي، وأن بإمكان تركيا أن تتصرف بهما كما تشاء داخل حدودها، لأن مصادر المياه هي تركية، كما أن آبار النفط تعود ملكيتها إلى العراقوسوريا، إنها مسألة سيادة. إن هذه أرضنا ولنا الحق في أن نفعل ما نريد، نحن لا نقول لسورياوالعراق أننا نشاركهما مواردهما النفطية، ولا يحق لهما القول إنهما يشاركاننا مواردنا المائية». أزمة حقيقية كما ويمكن الإشارة إلى أن بعض مياه الأنهار الإيرانية التي كانت تصب في الأراضي العراقية، وخصوصا في شط العرب، تم تحويلها إلى الحدود الداخلية الإيرانية ومنعت مياهها من الوصول إلى مجاريها السابقة في العراق، كمياه نهر القارون (الكارون) وغيره، علما أن ذلك يخالف قانون المياه الدولي الذي ينص على الاتفاق والتشاور بين دول المنبع والمجرى والمصب على إقامة المشاريع، وألا تلحق أضرارا بأحد الأطراف المستفيدة من مياه المشاريع المنوي إقامتها. وكان الخبير في شؤون الثروات المائية العراقي جاسم محمد السوداني، قد ذكر «أن العراق يمر بأزمة مائية حقيقية، وهي في تزايد، وأسبابها واضحة، داخلية وخارجية، لكن أكثر الأسباب تأثيرا هي الخارجية، والتي تأتي مباشرة من الدول المتشاطئة مع العراق كدولة تركيا». ويضيف السوداني «وتوالى بعد ذلك إنشاء السدود على نهر الفرات، لتطلق تركيا بعدها ما يسمى مشروع جنوب شرق الأناضول، الذي يتكون من 22 سدا ومشروعا مائيا، ويتوقع الانتهاء من المشروع في العام 2023، وإنجازه سيؤدي إلى فقدان العراق 70 ٪ من الإيرادات المائية من نهر الفرات وحده». أما في سوريا «فإن تدخل تركيا للإمساك بمصادر المياه داخل سدودها، بالإضافة إلى أن انتشار المجموعات المسلحة وعملها للسيطرة على أهم الموارد المائية، تجعل من تلك المناطق مسرحا لمعارك ستؤثر في مستقبل سوريا وسيادتها». أما في ما يتعلق بالأزمة المستجدة بالنسبة لمياه نهر النيل، والذي يعتبر هبة الحياة وشريانها الرئيسي في مصر، فإن لجوء أثيوبيا إلى إنشاء «سد النهضة» على مجرى النهر، بالقرب من الحدود السودانية بسعة ضخمة تصل إلى 74 مليون متر مكعب، ما يؤثر بشكل خطير على مشاريع التنمية وعلى جميع مناحي الحياة في مصر، خصوصا بوجود شح في مواسم الأمطار، وزيادة متسارعة في أعداد السكان. وكانت الأزمة بين مصر وأثيوبيا بشأن «سد النهضة» قد تصاعدت في شكل حاد منذ العام 2011، عندما شرعت أثيوبيا في تشييد سد عملاق على نهر النيل بكلفة 4،7 مليار دولارعلى مسافة تتراوح بين 20 و40 كيلومترا جنوب الحدود السودانية مع أثيوبيا. ويتوقع اكتماله في العام 2017، ليكون أكبر سد إفريقي، وعاشر أكبر سد لإنتاج الكهرباء على مستوى العالم. وذكر الناطق باسم وزارة الري المصرية السيد علاء ياسين، «أن دراسات أثبتت أن سعة السد (النهضة الأثيوبي) تضرب الأمن المائي في مصر، كون السعة المعلنة من الجانب الأثيوبي غير مبررة وغير مقبولة فنيا، وطالب بخفض هذه السعة إلى حدود آمنة متفق عليها، قبل التفاوض حول سنوات الملء وتشغيل السد». أما بالنسبة لمصادر المياه في فلسطينالمحتلة، فإن وقائع الاستيلاء على الينابيع والأنهار، بدأت تتوالى منذ خمسينيات القرن الماضي، فتم تجفيف بحيرة الحولة في بداية الخمسينيات، كما وتم تحويل ومصادرة مياه الأنهار التي تكون نهر الأردن، بفروعه اللبنانية والسورية والفلسطينيةوالأردنية، وذلك من خلال المشاريع المائية الضخمة في الكيان الصهيوني. إذ أن مياه نهر الأردن التي كانت تصب في بحيرة طبريا، لتسير بعد ذلك وتلتقي بمياه نهر اليرموك لتصب في البحر الميت، فإنها تحولت ومن خلال المشاريع الصهيونية في «البطوف» الفلسطيني لتروي الساحل الفلسطيني المحتل، وتساهم في إنماء المستعمرات التي أخذ المحتل يقيمها في النقب الفلسطيني المحتل، وليأخذ البحر الميت في الانحسار مساحة وقلة مياه، وفي التأثير على مصانع الفوسفات المقامة على شواطئه. وما مشروع «ناقل البحرين» الذي سينقل مياه البحر الأحمر بواسطة الأنابيب إلى البحر الميت، إلا محاولة لإحياء «الميت» من الموت التدريجي. أما التفاصيل المتعلقة بمياه هذا الناقل فهي من المفارقات المأساوية التي تثير الأحزان، فالناقل سينقل نحو 100 مليون متر مكعب سنويا في المرحلة الأولى، ليتم تحليتها في منطقة «الربشة» شمال مدينة العقبة الأردنية. وستتوزع المياه بواقع 30 مليون متر مكعب منها للأردن، و50 مليون متر مكعب لصالح العدو الصهيوني تباع بسعر التكلفة، و20 مليونا لمناطق السلطة الفلسطينية. وفي المقابل يحصل الأردن على مياه من بحيرة طبريا التي لم يتم تحديد مواصفاتها للمناطق الشمالية، بسعر 27 قرشا للمتر المكعب. أما في لبنان، فإن أزمة شح الأمطار في السنة الماضية، رست على نحو 400 ميلليمتر، علما أن المعدل الوسطي يصل أحيانا إلى ضعف تلك الكمية، وهذا يكشف عن مستور ما يمكن أن يمر به هذا البلد، الذي يقال عنه أنه يعوم على مياه من الأنهار والينابيع التي غارت ونشفت، ولم يعد في الأنهار إلا خيوط رفيعة من المياه، ليستفيق اللبنانيون على مأساة شراء المياه من الصهاريج المتنقلة، التي قد تكون مياهها نقية وصالحة للشرب أو غير صالحة، وليكون ذلك إنذارا من الإنذارات الكثيرة التي توجب المضي قدما لاجتراح وإقامة مشاريع مائية تغطي وتستجيب لانحسارات وشح المواسم المطرية التي قد تجيء، خصوصا وأن قلة الأمطار أخذت تتكرر في مواسم عدة، كما أن أعداد اللاجئين المتزايدة، مثلت ضغطا غير مسبوق على مصادر الحياة كلها، وأولها الماء. باختصار، هناك أزمة مياه حقيقية في المنطقة العربية، ويعتبر الأردن – على سبيل المثال – ثالث بلدان العالم في قلة المصادر المائية، ويواجه كل صيف أزمات تتعلق بمياه الشرب لسكان ازدادوا أضعافا مضاعفة، عما كان الحال عليه في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. علما أن أعدادا من النازحين إليه زادوا من الضغط والتأزيم في الحاجة إلى مياه نظيفة. وقد أشار بيان «المؤتمر العربي للمياه» الذي أقيم على ساحل البحر الميت في الفترة من 11 إلى 15 كانون الثاني (يناير) 2015 إلى أن دراسات الأممالمتحدة تبين أن 12 دولة عربية، هي دون خط الفقر المائي الحاد البالغ 500 متر مكعب سنويا، وفق معايير منظمة الصحة العالمية. وأشارت التقارير إلى أن حصة الفرد من المياه في الأردن، تصل إلى 120 مترا مكعبا سنويا، وهي تقل عن معدلاتها العالمية بما يزيد على 80 في المئة، كما ويبلغ خط الفقر المائي في الأردن 88 في المئة، بحسب بيانات وزارة المياه الأردنية، فإلى أين المفر؟ وهل تعاون الفقراء يمكن أن يحل الأزمة أو يخفف منها؟ المصدر: القدس العربي 8/2/2015م