تحظى الحكومة القادمة، وفق الأسس التى قامت عليها، والمهام المؤكلة لها، بكثير من الاهتمام العالمى والمحلى، وذلك لقيامها على انتخابات شهدت الأحزاب الوطنية بشرعية مؤسساتها، وقبول اعضائها وتكويناتها، الى جانب مشاركتها في أغلب مراحلها تسجيلاً لجماهيرها وتسميةً لمرشحيها وادارةً لحملاتها الانتخابية، واعتراف دولي واسع من بيوت خبرة متخصصة ومعروفة، بأنها خطوة في طريق البحث عن الديمقراطية والحكم الرشيد في دولة عالم ثالث تعاني من إشكالات بينوية وتعيش حالة من عدم الاستقرار في بعض اجزائها. إن ادراك حقيقة وفكرة الانتخابات التي جرت في الايام الماضية، أمر فى غاية الأهمية لكافة الأطراف المحلية خاصة، فنحن لسنا في واقع الحال أمام نفس الفكرة والأسباب التي تعقد من أجلها الانتخابات، من تداول سلمي للسلطة بين النخب المتصارعة أو المتنافسة على سدة الحكم، أو لانتهاء أجل الحكومة المحدد دستورياً، بل نحن أمام أمور أخرى مختلفة كلياً. نحن فى الأصل، أمام تنفيذ اتفاق لإنهاء صراع بين الشمال والجنوب فرضته الضغوط المختلفة، بما يعني أن الانتخابات لم تأت استجابة لنضوج أوضاع داخلية بقدر ما هي عملية فرضتها الضغوط الداخلية والخارجية. لكن على الرغم من ذلك يمكن استثمار هذه الخطوة وطنياً للمساهمة فى حل أزمات السودان المختلفة والمتشابهة التى تقوم على سوء توزيع الثروة والسلطة والخدمات.. لذلك، إن توفر كافة الشروط لتنظيمها بالدقة والموضوعية المعروفة فى هذه المرحلة أمر ليس ممكناً ان لم يكن مستحيلاً، وذلك لاعتبارات شراكة نيفاشا وما تتطلبه من التزامات محلية ودولية.. والبلاد فى مرحلة ادارة صراع بين الشمال والجنوب وفق اتفاق نيفاشا، لذلك تعتبر هذه الجولة مرحلة تجريبة تأسيسية للانتقال لنمط التداول السلمى للسلطة لفترة ما بعد نيفاشا. ان ادراك طبيعة هذه الجولة وحقيقتها يوفر قدراً كبيراً من الفرص التى تخلق أجواءً من التعاون لدرء المخاطر التى تحاك تجاه البلاد وتقوى من الجبهة الداخلية. تأتي الحكومة القادمة في ظروف في مجملها ملزمة للسير نحو الانفتاح والتحول من حكومة شمولية الى ديمقراطية. ولتمثيل كافة افراد الشعب السودانى الذى منحها الثقة والشرعية الدستورية، وتخاطب احتياجات المشاركين والمقاطعين للانتخابات. ولتحقيق تلك التطلعات يجب عليها الاستفاده من كافة الفرص المتاحة لها داخلية وخارجية التى تمكنها من ذلك وتجعلها حكومة مقبولة. وشكلت الاستجابة المبكرة للأحزاب السودانية للمشاركة فى الانتخابات واعترافها بالمؤسسات والقوانين التى تنظمها، مؤشرا ايجابيا للتعاون مع الحكومة القادمة، حيث يمكن التباحث معها حول مجمل القضايا القومية التى تهدد استقرار البلاد، كما أن الجماهير التى قاطعت الانتخابات ولم تخرج لإحداث اي انفلات أمنى، أو تسعى لافساد فعاليات الاقتراع، والتزمت بقواعد الممارسة الديمقراطية هى ايضاً جديرة بالاحترام والمشاركة فى فعاليات برنامج الحكومة الجديدة الذى يتطلب تضافر ابناء الوطن كافة صياغةً وتنفيذاً، وعدم الإذعان الى التقييمات الانطباعية والاستماع الى الرؤى الأحادية.. وجميعها فرص ايجابية وطنية يمكن توظيفها لخدمة المرحلة المفصلية من تاريخ السودان. ولعبت الولاياتالمتحدة دوراً كبيراً ومؤثراً على أطراف التفاوض في نيفاشا، وحثت جميع أصدقاء الايقاد على العمل في اتجاه توقيع اتفاق سلام ينهي حرب الجنوب وينهي الصراع حول السلطة والثروة، الي جانب متابعتها ومراقبتها المستمرة فيما بعد لعمليات تنفيذ الاتفاقية ودعمها لبعض مراحلها للأتيان بحكومة ديمقراطية بغية تحقيق اهم بنودها وهو الاستفتاء الذي يؤسس الدولة الأفريقية الوليدة التي تتطلع من خلالها الى ان تلعب دوراً اقليمياً كبيراً عجز عن لعبه الحلفاء القدامى، الى جانب جعلها دولة أنموذجاً ومحورية في منطقة القرن الافريقي والبحيرات العظمي. ولتحقيق تلك الاهداف سعت الولاياتالمتحدة لدعم الانتخابات والاعتراف بنتائجها وما يتمخض عنها، إلا ان هذا الدعم لا يخرج عن الاولويات الاستراتيجية للسياسة الامريكية التي يأتي في مقدمتها الملف النووي الايراني وانعكاساته على المنطقة ومدى تخوفها من إمكانية توظيف السودان لخدمة البرنامج الايراني، وما يتعلق به من تفاعلات خاصة بعد دعوة السيد عمرو موسى الأمين العام للجامعة العربية الذي حثَّ الأطراف العربية على ضرورة التعاون مع ايران وتركيا إزاء التعنت الأمريكي الاسرائيلي، وجميعها جهود يمكن ان تلقى استجابة فى حالة التعامل غير الايجابى من الوضع السودانى، ويمكن توظيف تلك الجهود الخارجية الداعمة للسودان من خلال صياغة استراتيجية واضحة لسياستنا الخارجية واهتمام كافٍ بعلاقاتنا الدولية، بعد أن أجمع الكل على منح الجنوب حق تقرير المصير، والاستفادة منها فى بناء جبهة وطنية موحدة إزاء متطلبات الاتفاق بالشكل الذى يعظم من فرص الاستقرار فى حالتى الوحدة والانفصال. وشكلت الانتخابات محطة لجني الفوائد لكافة الأطراف التي تبحث عن مصالح لها، فالجميع أمنوا على النظام الرئاسى والفيدرالى، وصاغوا برامجهم السياسية عليه، وهذا أكبر حالة توافق قومى ومكسب وطنى توصلت إليه الاحزاب منذ الاستقلال. اما بالنسبة لأطراف حكومة الوحدة الوطنية «المؤتمر الوطنى والحركة الشعبية» المنتهية ولايتهما في مايو القادم، فقد تمكنا من إعادة كامل عضويتهما للحكم عن طريق الممارسة الديمقراطية وأصبحت لهما شرعية أفضل ووضع يمكنهما من ممارسة سلطاتهما وفق نظام سياسي يقوم على المؤسسية وسيادة القانون، أما المعارضون والمقاطعون للانتخابات فهم حققوا من هذه الانتخابات مكاسب كبيرة أهمها استكشاف حجم عضويتهم وقيمة برامجهم الانتخابية ومصداقية علاقتهم وتحالفاتهم، بالإضافة الى تدشين عملها السياسي الرسمي والعلني من الداخل وتأسيس مقارها.. كل ذلك من ثمار اتفاق نيفاشا وما تمخض عنها من مؤسساتها ونظم قانونية. وأنه بدعم تلك الايجابيات والتقليل من الجوانب السالبة والانتهاء عن استخدام الشائعة، واعلاء قيم التسامح انطلاقا من مقولة إن الديمقراطية تطور نفسها، نستطيع ان ننتقل الى مصاف الدول المتقدمة. إن الشعوب تطور نفسها من خلال قراءتها لتاريخها وتقييمها لتجاربها، ولا تعتمد على الخارج علما ان له مصالحه. عليه تفرز الحكومة القادمة واقعاً سياسياً جديداً، حيث يبدأ البرلمان دورته الجديدة في مايو من هذا العام 2010م وعمرها دورتان برلمانيتان، أي أقل من سنة، ويمكن لها تحقيق نجاحات اذا تعاملت الحكومة مع الأوضاع من خلال إدراكها للمصالح المتبادلة، خاصة في ظل مواقف الحركة الشعبية الغامضة والمترددة، وما تحتاجه الحكومة من مساندة تجاه مسألة الاستفتاء وما يتمخض عنها.. وفي ظل التقاطعات الإقليمية والدولية المتعلقة بالسودان، والاستثمار الجاري للقضايا الماثلة التي لم تحسم بعد كقضية دارفور، الى جانب تطورات المحكمة الجنائية الأخيرة وآثارها، علما ان الدولة وفق القوانين والمؤسسات أصبحت دولة تعددية سياسية لا حزب واحد يستطيع ان يمرر قراراته دون اجازتها من المؤسسات المعنية، أي هنالك اختلاف بين ينبغى ادراكه والتحسب له من خلال استثمار كافة الفرص التى بدأها المؤتمر الوطنى بإعلانه عن رغبته فى تشكيل حكومة قومية تعمل لإدارة الشأن السياسى فى المرحلة المقبلة، وهذا يتطلب من الجميع مراجعة مواقفهم السياسية من خلال منظور المصلحة العامة. أستاذ بالمركز الدبلوماسي- وزارة الخارجية. نقلا عن صحيفة الصحافة السودانية 28/4/2010م