قضايا وتحديات كبرى تنتظر المشير عمر البشير بعد تنصيبه رئيسا للجمهورية لخمسة أعوام قادمة، ملفات مثقلة تتطلب معالجتها توفر الإرادة السياسية الجامعة بين السودانيين، بدءا بالحزب الحاكم وشركائه، وأحزاب المعارضة السياسية، والحركات والجماعات المسلحة. وتشكل ملفات حقوق الإنسان والمصالحة الوطنية والعدالة وسيادة حكم القانون رأس الرمح في الأولويات القصوى إذا ما أراد الرئيس بناء دولة مؤسسات تقوم بواجباتها، وتحظى بثقة المواطنين أصحاب المصلحة الحقيقيين، وتُحترم فيها المبادئ والقيم الدستورية الراسخة في الممارسة الدولية العرفية. حيث يقع على عاتق أي حكومة تعتبر نفسها مفوضة من أفراد شعبها، وترغب في أن تكون عضوا صالحا في المجتمع الدولي أن تقوم بواجبات ثلاثة وهي إعمال، واحترام، وحماية حقوق الإنسان لجميع من يقيم على أراضيها، أو يحمل جنسيتها وجواز سفرها. فالشعب الذي يفوض الرئيس ويختار ممثليه في الجهازين التنفيذي والتشريعي يتطلع إلى رؤية أبرز القضايا والتحديات التي تعترض سبيل تطور البلد ورفاه مواطنيه موضوعة على رأس أجندة عمل السلطة التنفيذية، بل وتشكل الهم الأكبر والتحدي الشخصي للرئيس نفسه، حتى يضمن تحقيق تطلعات الفئة الغالبة من أفراد الشعب الذين انتخبوه وآثروا دعم حزبه الحاكم عن الأحزاب الأخرى المشاركة في العملية الانتخابية. وليس من حل لمشكلات السودان إلا بإقرار الجميع مسؤوليتهم عن التعقيدات المتزايدة لأزمات البلاد، وضعف إرادتهم وقدرتهم على مداواة الجراح منذ استقلال السودان، حيث أخذت كل حكومة عسكرية أو مدنية دورها، تطاول بها الزمان أو قصر، فتخلت عن الحكم مخلفة وراءها مشكلات مضاعفة. ولما وصل الحال بالسودان إلى ما هو عليه من تدويل لمعظم قضاياه المصيرية، حلت بين ظهرانيه أكبر عملية حفظ سلام للأمم المتحدة حول العالم تشكل ميزانيتها السنوية العلاج الشامل لأزمات الأطراف، وانفصل جنوبه عن شماله، وتوقفت معظم الشركات والمؤسسات الاقتصادية الكبرى بسبب الحصار من قبل كبار اللاعبين في المجتمع الدولي، وخرج المنتجون في معظم أطرافه عن دائرة الإنتاج ليحتشدوا في معسكرات النزوح واللجوء جياعا ويعانون العطش ومرضى ينتظرون هبات وعطف المانحين الدوليين. فأصبح الطريق الوحيد للمستقبل هو تحمل الحكومة الجديدة مسؤوليات إصلاح كل ما أفسدته العقود الماضية بما في ذلك العقدان الماضيان، وإن كان العلاج الناجع يتطلب كيَّ العصب. ولأن تكرار المعالجات المتماثلة من زوايا ضيقة لأزمات السودان المستفحلة على المستوى السياسي والاقتصادي والأمني والاجتماعي والثقافي قد زاد من اتساع الفجوة بين شواغل واهتمامات المواطنين وشواغل واهتمامات الحكومة، فقد برزت ظاهرة فقدان الثقة في مؤسسات الدولة ككل في نزوع الأطراف إلى حمل السلاح والخروج عن سلطة الدولة والمطالبة بحقوقهم عبر العنف، حتى دقَّ العنف أبواب الجامعات وتحولت ساحات التحصيل الأكاديمي وبناء قيادات المستقبل إلى ساحة عراك تسال فيها الدماء، وانتشر خطاب التحريض والكراهية والتعصب والعنصرية في تعليقات وكتابات النخب المثقفة حتى كادت أن تغيب الصورة الذهنية الإيجابية عن أبرز سمات السودانيين المتمثلة في التسامح والسلام والإنسانية والتعاضد والتراحم والكرم، فأصابت وجهه الصبوح بدمامل يحتاج علاجها لكيِّ العصب. ولأنها قد تكون الفرصة الأخيرة لأن يوافق التغيير المأمول جهداً موضوعياً واستجابة منطقية لأولويات السودان الدولة، فقد رأينا أن نضع قائمة بالأولويات القصوى التي يجب أن تقدم: إعمال، احترام، وحماية حقوق الإنسان، تقع على الحكومة التزامات قانونية وأخلاقية عظمى في تمكين جميع أفراد شعبها من التمتع التام بحقوقهم الأساسية المنصوص عليها بالمعاهدات الدولية الرئيسية في مجال حقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني. ويترتب على هذا الالتزام بضرورة اتخاذ التدابير التنفيذية والقضائية والتشريعية اللازمة لتطبيق هذه الحقوق الناشئة بموجب قبول السودان لتلك الاتفاقيات والمعاهدات الدولية. فقد صادق وانضم السودان إلى الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري في مارس 1977م، والعهدين الدوليين الخاصين بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبالحقوق المدنية والسياسية في مارس 1986م، والاتفاقية الدولية لمناهضة الفصل العنصري في الألعاب الرياضية 1986م، واتفاقية حقوق الطفل في أغسطس 1991م، والبروتوكولين الاختياريين المتعلقين بمنع إشراك الأطفال في النزاعات المسلحة في يوليو 2005م، وببيع الأطفال واستخدامهم في البغاء والمواد الخليعة في نوفمبر 2004م، واتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، والبروتوكول الاختياري الملحق بها في أبريل 2009م، واتفاقية الأممالمتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها في 2013م، والاتفاقية الدولية المتعلقة بوضع اللاجئين 1974م، والاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها 1977م، كما انضم السودان إلى سبع اتفاقيات من اتفاقيات منظمة العمل الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، إلى جانب الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب في 1986م. بينما لم يصادق السودان أو ينضم إلى ثلاث اتفاقيات أساسية، هي: اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، رغم توقيعه عليها في 4 يونيو 1986م، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة 1984م، والاتفاقية الدولية لحماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم، ولا البروتوكولات الملحقة بهذه الاتفاقيات أو بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. نلحظ مما تقدم أن الاتفاقيات الرئيسية تمت المصادقة عليها قبل أكثر من ربع قرن، سوى اتفاقيتين هما اتفاقيتا حقوق الطفل، والأشخاص ذوي الإعاقة، بينما تعثرت خطوات الدولة السودانية في حسم انضمامها إلى بقية الاتفاقيات الأساسية، والبروتوكولات التي تعلن فيها الدول قبول نظر اللجنة المعنية للشكاوى الفردية المقدمة من الأفراد والمنظمات، وبصفة خاصة اتفاقية مناهضة التعذيب، رغم إدراك الخبراء القانونيين في الحكومة السودانية بأن منع التعذيب وإدانته وتجريمه وملاحقة مرتكبه في كل الأوقات مفروض على السلطات الوطنية بموجب العرف الدولي، بل يمنع التعذيب حتى في حالة الطوارئ التي تتهدد الأمة حسب المادة الرابعة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي أضحى جزءا من القانون المحلي وفقا لدستور السودان. ولأن هنالك تباينا كبيرا بين الواقع والطموح، فإن المطلوب، فعلاً لا قولاً، هو تحسين حالة حقوق الإنسان في البلاد من قبل الآليات الوطنية التي تم تأسيسها لهذا الغرض ومن قبل الحكومة بصفة خاصة. فقد تلاحظ وبوضوح خلال العقود الماضية أن تلك الآليات التي أنشأتها الدولة لحماية وتعزيز وحقوق الإنسان تحرص فقط على تقديم صورة مغايرة لحالة حقوق الإنسان للمجتمع الدولي بينما تعجز عن القيام بدورها الحقيقي في تقديم النصح والإرشاد للدولة في معالجة المخالفات والانتهاكات الجسيمة التي ترتكب بحق الأفراد والجماعات، وتعمل على تمكين الضحايا من إسماع صوتهم ومظلمتهم ومساعدتهم في الوصول إلى العدالة والإنصاف. وقد أدى هذا الوضع إلى فقدان الآليات الدولية لحماية حقوق الإنسان – مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة مثالا - إلى الثقة في أداء الحكومة لواجباتها مما سهل من وضع السودان تحت عملية المراقبة الدولية عبر تعيين مقررين خواص وخبراء مستقلين تجددت ولايتهم بصورة مستمرة لمتابعة حالة حقوق الإنسان في البلاد منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي إلى اليوم. ونرى هنا ضرورة أن يولي رئيس الجمهورية اهتمامه لأمر إعادة تشكيل الآليات الوطنية من خبراء مستقلين متجردين من أي انتماء، محميين بموجب القانون، ويتمتعون حقيقة بالدراية والعلم والمهنية الكافية بمفهوم وآليات عمل القانون الدولي لحقوق الإنسان، وأن تجد تدخلاتهم وتوصياتهم الاحترام والتنفيذ الفوري من جميع مؤسسات الدولة والمجتمع المدني. لأنه لا يعقل أبداً أن يتم تشكيل مفوضية وطنية مستقلة في مجال حقوق الإنسان مثلاً، ويحتاج أعضاؤها لتنمية قدراتهم في مجال حقوق الإنسان، في بلد يذخر بالكفاءات والخبرات. المصالحة الوطنية ومعرفة الحقيقة وسيادة حكم القانون: لقد مر السودان منذ استقلاله وخلال أنظمة حكمه المختلفة الشمولية والديمقراطية بفترات طويلة من القمع السياسي، والنزاعات المسلحة والاقتتال الداخلي، ارتُكِبَت خلالها انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان – مستمرة وواسعة النطاق ومنهجية - أفضت إلى غبن كبير حاق في النفوس، وهجرات نخب وكوادر إلى خارج البلاد، وإلى فقدان وظائف وحقوق، وانزواء قدرات وطنية عن دائرة التأثير بسبب الإقصاء في مناطق السلم، بينما أفضت النزاعات المسلحة إلى فقدان عشرات الآلاف من الأنفس، والممتلكات، وتدمير المؤسسات، ونزوح ولجوء مئات الآلاف من مناطقهم الأصلية في جنوب وغرب وشرق البلاد حسب إحصاءات الأممالمتحدة والحكومات المتعاقبة على السودان. هؤلاء من بقي منهم حيا لا يمكننا بأي حال أن نتجاوز حقوقه في صمت لنتحدث عن ديمقراطية ودولة مؤسسات دون أن تشعره الدولة باهتمامها بما لحقه من ظلم مسَّ كرامته الإنسانية، ومن خلال إرادة سياسية جامعة كما أشرنا في مقدمة هذا المقال، إرادة تجعل الحكومة السودانية الجديدة تعترف بحقوق الضحايا، وتبحث في أصول التراث السوداني والقيم الثقافة السودانية عن أبرز آليات الحل. حل يمكن الضحايا وذويهم من معرفة الحقيقة والحصول على الإنصاف المعنوي (الاعتذار) والمادي (التعويض) لأولئك الذين أصيبوا، أو قتلوا أو نهبت ممتلكاتهم في مناطق النزاعات المسلحة، والذين فقدوا وظائفهم ومنعوا من حرياتهم وحقوقهم الأساسية دون محاكمة عادلة. لقد جاءت الفرصة لأنظمة الحكم في بلادنا مرات ومرات لتحقيق المصالحة الوطنية والإنصاف وكشف الحقيقة، لكن فرصة هذا النظام هي الأكبر، فبعد انهيار اتفاقية أبوجا للسلام في 2006م، جاءت اتفاقية الدوحة 2011م، وما سبقها من مفاوضات حصلت على دعم دولي من قبل الأممالمتحدة والاتحاد الإفريقي، ونفذت إلى إشراك أصحاب المصلحة الحقيقيين عندما جلبت ممثلي النازحين واللاجئين من المعسكرات، والتزم راعيها بدعم ملف التعويض وإعادة الإعمار والتنمية. ورغم امتناع بعض من حملة السلاح عن التوقيع إلا أن تنفيذ الاتفاق من الجانب الوطني ينبغي أن يأخذ حقه كاملا من الاهتمام، حيث ما زلنا نلمس ضعف الخطوات المحلية في تحريك السلام الاجتماعي، في مقابل الاهتمام بالمستوى السياسي في إجراءات السلام، حيث تحقق لأبناء دارفور حكم ولايات دارفور جميعها، لكنني وغيري ننظر كأن بعض هذه القيادات الكبيرة تنعزل عن الأهداف التي خرجت من أجلها فور توليها السلطة على مستوى المركز أو الولاية، وهو ما يدفعنا لدعوتهم لإعادة النظر في أدوارهم المطلوبة خلال الفترة القادمة. لقد جسدت لنا تجربة قيادات المؤتمر الوطني في جنوب إفريقيا، أمثلة تضرب للأجيال في الالتزام العام والخاص بتطبيق منهج واضح للإنصاف ومعرفة الحقيقة جعلت فيه مصلحة الوطن في المقدمة. وفي المقابل تقع على الأحزاب السياسية المعارضة والحركات والجماعات المسلحة أن يتقدموا بمنهج واضح للحل السلمي تقبله الحكومة كأساس للتغيير السياسي والاجتماعي المنتظر. تغيير مقبول للجميع لا يقر فيه إقصاء أو إبعاد أحد من أي جماعة أو حزب، عن حقه في المشاركة إلا في حال ثبوت اعتدائه على حق عام، حتى لا ننتقل من حالة انتقام إلى انتقام، فيضيع الأمل المعقود على عودة السودان مستقرا آمنا. فربع قرن من الزمان مرت من عمر نظام الإنقاذ، سادتي الكرام، كاف لبلوغ تمام الرشد لكل إنسان، ولقدرته على التأثير في عصر تطورت فيه تقنيات وسائل الاتصال ونقل المعلومات، حيث لم يعد بإمكان أي سلطة أن تحجب الحقيقة أو تضع ستارا على أعين الناس حتى الذين لا تساعدهم أميتهم الأبجدية على القراءة والكتابة. المصدر: الشرق القطرية 15/6/2015م