باق ويتمدد؛ البقاء قد يختلف عليه بعض المحللين والمراقبين الذين يرون انحسارا في مناطق ومدن سيطرة التنظيم، فيما التمدد بات من المسلمات. وثمة من يذهب أبعد من هذا إلى القول باحتمالات متوقعة لاعتراف المجتمع الدولي به كأمر واقع، إذا استمر فشل الجهود الكونية للقضاء على التنظيم لسنين لاحقة على غرار اعتراف ذاك المجتمع بإمارة أفغانستان التي تعاملت معها العديد من الدول الأوروبية تحت مسميات تأمين المصالح، والحد من عداء ينتج هجمات انتقامية في عقر دارها. إذا كانت السمة الغالبة لتنظيم قاعدة الجهاد العالمي العمل انطلاقا من أفغانستان إلى دول غربية، فان تنظيم الدولة الإسلامية اتبع استراتيجيتين إحداهما تحاكي استراتيجية تنظيم القاعدة الأم؛ والأخرى تعتمد على جذب المزيد من الأجانب إلى مناطق نفوذه لتلقي تدريبات عسكرية ودورات شرعية والمشاركة في العمليات القتالية الضامنة لاكتساب ما يكفي من الخبرات للعودة إلى موطنهم الأصلي في مختلف الدول الأوروبية. تميزت الفترة بين نهاية 2011 وانسحاب القوات الأمريكية، ومطلع 2014 وسيطرته على كامل مدينة الفلوجة، 40 كيلومترا غرب العاصمة، بتفشي ظاهرة الفساد في عموم القوات الأمنية العراقية، ما أتاح للتنظيم الذي عرف باسم «الدولة الإسلامية في العراق» إعادة هيكلته على أسس قتالية عالية الكفاءة من حيث كثافة الدورات التدريبية القتالية في مختلف الظروف الجوية، والبناء العقدي من خلال دورات شرعية مكثفة، إضافة إلى ابتكار وسائل عدة لضمان تمويل ذاتي لمقاتليه ومعسكراته للخلاص من أجندات الممولين؛ وهذه النقطة كثيرا ما أشار إليها مراقبون ومحللون غربيون بانها أحد مقومات بقاء التنظيم وسلامة صفوفه الأولى من الاختراقات الخارجية الكبيرة. المحطة الأولى لتمدد تنظيم الدولة كان غربا باتجاه سوريا بعد اندلاع الثورة السورية وتبنيها الخيار المسلح لإسقاط النظام الذي قتل الآلاف من السوريين خلال الأشهر الخمسة الأولى من سلمية الثورة مع موقف صامت من المجتمع الدولي. بعد اندلاع الثورة السورية واتخاذها طابعا مسلحا ضد الحكومة، شهدت الحدود العراقية الغربية مع سوريا في محافظتي نينوى والأنبار، معقل تنظيم دولة العراق الإسلامية، تدفقا لعناصر التنظيم إلى الأراضي السورية، وخاصة المحافظات الشرقية، دير الزور تحديدا ومدنها، لتزويدهم بالخبرة القتالية التي يفتقرون إليها في حرب العصابات، تحت مسمى «جبهة النصرة لأهل الشام» نهاية العام 2011. التعاون بين جبهة النصرة والدولة الإسلامية في العراق أثار قلق الحكومة العراقية وحكومات دول الجوار العربي والإقليمي من تنامي قوة المتطرفين على جانبي الحدود، أي الخشية من تشكيل واقع جغرافي لمناطق نشاط ونفوذ المنظمتين المسلحتين بشكل متفاوت. ضمت جبهة النصرة في بداياتها مقاتلون أغلبهم من العراقوتونس وليبيا وغيرها انتقلوا من العراق إلى سوريا؛ وفي رسالة «أبو بكر البغدادي» أعلن أن «محمد الجولاني» زعيم جبهة النصرة في سوريا ما هو إلا «جندي من جنود دولة العراق الإسلامية انتدبناه للعمل في سوريا». كانت ذروة النجاحات العسكرية التي حققتها الدولة الإسلامية في العراق والشام سيطرتها على مدينة الفلوجة بالكامل مطلع العام 2014، وأجزاء مهمة من مدينة الرمادي مركز محافظة الأنبار؛ وكانت السيطرة على مدينة الموصل، ثاني أكبر مدن العراق من حيث الكثافة السكانية، في العاشر من حزيران/يونيو 2014، قد تسبب بانهيار القوات الأمنية، والاستيلاء على معدات عسكرية بعشرات مليارات الدولارات أهلتها للإعلان عن دولة الخلافة الإسلامية في التاسع والعشرين من حزيران/يونيو من العام نفسه. شكل إعلان الخلافة الإسلامية دافعا قويا للعديد من الجماعات والمنظمات المسلحة ذات التوجه الفكري والعقدي الذي يتبنى أفكار تنظيم القاعدة الأم، أو الدائر في فلكه، لإعلان «البيعة» للدولة الإسلامية ممثلة ب «خليفتها» أبو بكر البغدادي. مع توالي بيعات بعض الجماعات في مختلف أرجاء العالم، يمكن القول أن تنظيم الدولة بات يسيطر على مساحات جغرافية شاسعة في العراقوسوريا، إضافة إلى أجزاء من شبه جزيرة سيناء ومدينتي سرت ودرنة الليبيتين ومناطق جبلية على الحدود التونسيةالجزائرية وحوالي خمس مساحة نيجيريا الغنية بالنفط ومناطق من الصومال على الحدود مع كينيا وأثيوبيا، إضافة إلى تواجد ونفوذ في دول أخرى دون سيطرة على أراض أو مدن مثل الجزائر والسودان واليمن والمغرب وغيرها. هذا الانتشار الجغرافي الممتد مهد لتنظيم الدولة القيام بعمليات عسكرية على نطاق جغرافي واسع وممتد عابر للقارات انطلاقا من معقله في الرقة السورية والموصل العراقية. ففي ليبيا التي يقدر عدد مقاتلي التنظيم بعشرة آلاف مقاتل، حسب خبراء في الجماعات المسلحة، استطاع السيطرة على مدينتي سرت ودرنة، ونفذ عملية إعدام جماعي لعمال أقباط مصريين في 15 شباط/ فبراير 2015، ما دفع الطيران الحربي المصري لشن غارات على معاقل التنظيم في العمق الليبي. أما في تونس فكانت عملية فندق إمبريال في سوسة وعدد من الهجمات على قوات الجيش والشرطة على يد تنظيم عقبة بن نافع الذين يضم عدة مئات من المقاتلين العائدين من ساحتي سورياوالعراق. وفي نيجيريا التي أعلن تنظيم بوكو حرام (أهل السُنّة والدعوة والجهاد) بيعته لتنظيم الدولة، فيعد الأكثر نشاطا في القارة الأفريقية حيث يقوم بعمليات ضد الجيش النيجيري ويفرض سيطرته على خمس مساحة البلد البالغ تعداد سكانه حوالي سبعة عشر مليون نسمة. استطاع تنظيم الدولة أن يثبت وجودا في شبه جزيرة سيناء المصرية بعد إعلان تنظيم أنصار بيت المقدس بيعته لابي بكر البغدادي في العاشر من تشرين الثاني/نوفمبر 2014، تحت مسمى الدولة الإسلامية/ ولاية سيناء ليكتسب قوة مضافة إلى قوته التي كان يتمتع بها. وتشير إحصائيات رسمية إلى أن تنظيم ولاية سيناء نفذ أكثر من خمسين عملا عسكريا كهجوم الفرافرة وعمليتي رفح الأولى والثانية واستهداف مبنى مديرتي أمن القاهرة والمنصورة وعملية كرم القراديس وغيرها التي استهدفت اغتيال وزير الداخلية السابق محمد إبراهيم ونجاحه في اغتيال النائب العام هشام بركات، وآخرها تبني إسقاط الطائرة الروسية ومقتل أكثر من 220 من المواطنين الروس. ولم تكن السعودية واليمن والكويت بعيدة عن نشاطات التنظيم حيث تمكن من تفجير عدد من الحسينيات في السعودية، إضافة إلى استهداف قوة طوارئ عسير والقوات الإماراتية التي استهدف التنظيم في اليمن أحد مقراتها العسكرية وأدى إلى مقتل أكثر من أربعين من العسكريين الإماراتيين، إضافة إلى عشرات العمليات ضد الحوثيين وأماكن عبادتهم؛ وفي الكويت استهدف في إحدى عملياته حسينية الصادق والتي أدت إلى مقتل أكثر من عشرين شخصا ربيع هذا العام. لكن هجمات باريس الأخيرة تبقى هي الأكثر تأثيرا في مجريات الأحداث، وقد تكون لها تداعيات على مستوى المنطقة والعالم. تشير بيانات التنظيم واتجاهات الرأي العام لعناصر التنظيم ومناصريه في وسائل التواصل الاجتماعي، أن هجمات باريس جاءت ردا على محاولات فرنسية للاستئثار بالدور الأكبر من غيرها من الدول الأوروبية في محاربة الإرهاب في سوريا. وعلى ما يبدو؛ فان تنظيم الدولة تجاوز مراحل اقتناص الفرص، والبحث عن أهداف أمنية رخوة، أو ثغرات أمنية للوصول إلى أهدافه إلى مرحلة الاشتباك التي تسبقها عادة استعدادات متعددة الجوانب، تبتدأ باختيار الهدف وجمع المعلومات عنه والتخطيط والإعداد لضربه بأيدي مقاتلين سبق أن كانوا في ساحتي سوريا أو العراق قبل عودتهم إلى مواطنهم الأصلية. بكل بساطة يمكن الاستنتاج أن تنظيم الدولة بات يتبع استراتيجية مختلفة عن استراتيجيات التنظيم الأم؛ إذ يقوم بتجنيد مقاتلين أوروبيين واستقدامهم إلى مناطق سيطرته لتهيئتهم من جوانب عدة ليكونوا بعد عودتهم أشبه بموطئ قدم للتنظيم في الدول الأوروبية؛ وليسوا كخلايا نائمة أو ذئاب منفردة، كما اصطلح على تسمية الأفراد الين ينفذون عمليات فردية دون أيّ ارتباط تنظيمي مباشر مع تنظيم الدولة في العراقوسوريا. المصدر: القدس العربي 22/11/2015م