انقضى عامان منذ أن ظهرت على فضاء الساحة السياسية السودانية دعوة الرئيس عمر البشير إلى حوار وطني جامع لا يستثني أحداً بأمل التوافق على تسوية تاريخية تنهي الحروب المتطاولة وتخاطب جذور الأزمات السودانية وتؤسس لأوضاع جديدة على قاعدة من التراضي على أجندة وطنية تحقق ما عجز النظام السياسي السوداني على التوافق عليه على مدار ستين عاماً هي عمر الحكم الوطني بما يضمن استدامة السلام وتحقيق الاستقرار وتكامل اللحمة الوطنية وانطلاق قاطرة التنمية. والآن وبعد مرور عامين على هذه الدعوة، وكان من المفترض أن تجري خلالها الكثير من المياه تحت الجسر لتجدد بركة الأزمات الآسنة التي لبث فيها السودان عقودا عدداً، أين يقف السودان والسودانيون اليوم، على تنوّع تركيبتهم وعلى امتداد طيفهم السياسي سواء على دست الحكم أو على مقاعد المعارضة، فهل هم اليوم أكثر تفاؤلاً مما كانوا عشية "خطاب الوثبة" ، وهل هم أكثر تماسكاً اجتماعياً عمّا كانوا عليه، وهل هناك وحدة بين تنظيماتهم الفاعلة، وتقارباً بين مكوناتها، وهل هم اليوم أكثر اقتراباً من تجاوز حالة الحيرة والخوف من المستقبل، أم أن الخشية من مصير مجهول هو ما بات يسيطر عليهم؟. هذه الأسئلة وغيرها هيّ ما نحتاج الإجابة عليه اليوم قبل الغد من واقع الحال، لا من رصيد التمنيّات والأحلام، هل السودانيون اليوم أكثر ثقة في أنفسهم وأملاً في وطنهم أم أن الهموم تحاصرهم بفعل ضيق العيش في غياب فسحة الأمل "وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل" ، أم أن الهروب الكبير من البلاد فقد بات هو مطمع كل من يجد إلى ذلك سبيلاً، لا يحبسهم إلا حابس في انتظار أن يمنّ الله عليهم بمخرج، وتحمل الأنباء أن عشرات الآلاف من المهنيين في التخصصات المختلفة، وغيرهم، طرقوا باب الهجرة بحثاً عن مظآن للعيش الكريم خارج وطن ضاق بهم على اتساعه. ليس سراً أن السودان يواجه تحديات أكثر خطورة اليوم من تلك التي كان يواجهها قبل عامين، فمبادرة الحوار الوطني التي جاء إطلاقها على الرغم من كل التحفظات التي رافقتها بحثاً عن "بيئة سياسية مثالية" لضمان نجاعتها، تحولت من فرصة ذهبية نادرة للتلاقي الوطني بما يضمّد جراح الوطن، تحولت بفعل "الأنفس الشح" إلى أداة للمزيد من التفتيت والتشرذم والاستقطاب حتى عادت الأمور إلى المربع الأولى، فإذا بالبون الشاسع يزداد بين القوى السياسية. وكان الظن أن الحوار مناسبة لجمعها على صعيد وطني واحد، ويزداد الاستقطاب حدة بدلاً من أن تضيق مساحات الإقصاء والإلغاء المتبادل، بدأ المشهد كئيباً على الرغم من أنه عند أول داعي الحوار التقى عدد مقدر من قوى سياسية ذات وزن كان من شأنها استمرارها في هذا المسار أن يضع لبنة قوية تساعد على المضي قدماً، ما حدث أن هذا الجمع تفرق أيدي سبأ لأنه هناك من لم يكن يريد لعجلة الحوار أن تمضي بجدية خشية أن تفرض استحقاقات ليكونوا على استعداد لدفع ثمنها. من أراد أن يعرف لماذا لبث السودان ستة عقود في تيه سياسي عاجز عن إدراك ما حققته أغلب الدول المستعمرة عقب استقلالها من خلال حكم وطني مسؤول استطاع أن يحقق معادلة السلام والاستقرار والتنمية، فلينظر إلى سيناريو "الحوار الوطني" كيف مضى منذ إطلاق مبادرته قبل عامين وسط آمال بإمكانية أن تهتدي الطبقة السياسية السودانية المتناحرة على السلطة أخيراً إلى تسوية تاريخية، فإذا الفرصة التي لاحت تتبدد أمام ناظري الجميع، والمبادرة تتعثر بفعل المناورات الضيقة لتنتهي إلى مأزق جديد يعيد إنتاج الأزمة الوطنية المستفحلة. وها هي السلطة الحاكمة تعلن أن مؤتمر "الحوار الوطني" ، الذي رسمت مساره على مقاس أجندتها الذي تقزّم من "ديالوغ" إلى "مونولوغ" ، قد بلغ آخر شوطه، فكيف يبدو المشهد؟ هل نحن فعلاً على أعتاب عمل منتج من شأنه أن يضع البلاد على طريق السلام والاستقرار، أم أن الأمر لا يعدو أن تكون مناسبة أخرى لإظهار عجز الطبقة السياسية السودانية عن إدراك متطلبات الاستحقاقات الوطنية الراهنة؟. الواقع الماثل يشير بوضوح إلى أننا الآن أبعد بكثير من أي وقت مضى من إرهاصات عملية سياسة ناضجة. ومن يتابع المواقف المعلنة من الأطراف المختلفة على جانبي الأزمة يدرك بلا مواربة أن الساحة السياسية تعيش حالة استقطاب حادة أسوأ بكثير مما كان الأمر عليه عشية إطلاق مبادرة "الحوار الوطني" التي قبلت الانخراط فيها دون شروط مسبقة قوى سياسية ذات وزن معتبر، وسرعان ما تبدد ذلك الوزن على خلفية تلكؤ ومناورات ضيقة الأفق في أوساط الحزب الحاكم مناوئة لعملية حوار جوهرية. المصدر: الراية القطرية 14/2/2016م