لا نعرف بالتحديد ماذا يجري في الغرف السرية المقفلة لقيادة حلف شمال الأطلسي؟ ولا ندرك اليوم في مطلع السنة الجديدة كيف سيكون التدخل العسكري في ليبيا الشقيقة؟ ومن سيشارك فيه؟ ومن سيقوده؟ وما هي غاياته (فلكل عمل عسكري عقيدة و أهداف)؟ ثم من سيقصف بالطائرات؟ و من سيكون المقصوف؟ وممن تتشكل القوى البرية؟ حيث أثبتت الأحداث أنه لا نصر يتحقق لفريق يكتفي بالقصف من الجو. ونحن كتونسيين معنيون بالدرجة الأولى بمشروع من هذا العيار ربما أكثر من الشقيقتين مصر والجزائر لأسباب تاريخية وجغرافية وإنسانية لا تخفى ولا يشكك فيها أحد. يقول أحد الخبراء الأمريكان في الجيوستراتيجيا هذا الأسبوع بأن تونس ستتحمل توابع الزلزال العسكري والأمني حين تندلع الزوابع. فالبلاد تكاد لا تخرج من هزات أمنية واجتماعية وسياسية تركت في اقتصادها ندوبا موجعة لكنها بالمقارنة مع مجتمعات الشرق الهشة يمكن القول أنها نجت من منطقة المطبات الكبرى بفضل صلابة عود الدولة وبقاء مؤسساتها سليمة فالدولة المهيكلة في تونس تعود إلى قرون تعاقبت على إدارتها أجيال من التوانسة اكتسبت خبرة في الإدارة والتصرف وتأطير المجتمع. لكن الذي سيطرأ في لعبة الأمم هو امتحان عسير يتعدى الحدود ولا يقرأ حسابا لما نسميه السيادة واستقلال القرار ولا يمكن لتونس ألا تعيه وألا تتوقع مضاعفاته. يجب علينا أولا قراءة الواقع الدولي بعيون مفتوحة وعقول واعية لنفك شفرات الأحداث. ففي أعلى سلم القوى العملاقة نجد التحول من حالة توافق المصالح بين الولاياتالمتحدة وروسيا إلى حالة التصادم. تتذكرون كيف عالجت واشنطن وحليفاتها الأوروبيات معضلة أوكرانيا أولا بالتحدي (الغربي) المتمثل في تكريس وتشجيع انفصال هذه (الولاية) الروسية ثم تتذكرون كيف حرك بوتين قطعة الشطرنج القرمية (نسبة لشبه جزية القرم)، فأصبح التعادل هو سيد الموقف بين العملاقين ثم لاحظنا أنه في خضم هذه الأزمة الإقليمية الخطيرة مالت واشنطن إلى إرضاء موسكو بتشريكها في إدارة ملف النووي الإيراني وإدراة ملف معالجة الحرب السورية سعيا منها لتحقيق توازن القوى واجتناب التصادم و شهد المراقبون للوزيرين (جون كيري) و(سرجاي لافروف) بالحكمة وربما هنا عبارة الحكمة تعني الدهاء. وأعاد كثير من الزملاء خبراء السياسات الدولية إلى الأذهان معاهدة (سايكس بيكو) الموقعة بين القوتين المنتصرتين في الحرب العالمية الأولى بريطانيا و فرنسا بتعويض سايكس ب كيري و تعويض بيكو ب لافروف. فتقاسمت القوتان الأعظم (سنة 1916 ثم سنة 2015) تركة الرجل المريض. و رغم تغير المنتصرين على مدى قرن فإن الرجل المريض بقي هو نفسه (أي الشرق الأوسط و ما كنا نسميه دار الإسلام) وبعد أن تحركت عين العاصفة من المشرق إلى المغرب حسب تعبير رئيس وكالة الاستخبارات الأمريكية أصبح الجميع على كف عفريت وعلينا في تونس أكثر من جيراننا أن نستعد لمواجهة المجهول. استعرضنا المستوى الأعلى للأزمة أي بين العملاقين الأمريكي و الروسي ونحاول تحليل المستوى الثاني (أي التصادم بين مصالح القوى الإقليمية) لندرك أن باريس هي المعنية بالدرجة الأولى بكل تغيير في مناطق نفوذها وكل إخلال بتوازن القوى وهي التي تزعمت الجيوش الأوروبية المتدخلة في سوريا حاليا وقبلها في ليبيا إبان رئاسة ساركوزي ورد تنظيم داعش على زعامة فرنسا للعمل العسكري بالمجزرة الإرهابية في باريس يوم 13 نوفمبر الماضي و لم تخف الحكومة الفرنسية سعيها لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط على أساس الحرب على الإرهاب وعلى أساس تصور مستقبل سوري وعراقي وليبي ويمني لا يتعارض مع مصالح الاتحاد الأوروبي والغرب عموما في المنطقة. وفي المقابل نجد موقفا جزائريا صلبا يرفض كل تدخل عسكري في ليبيا بناء على استراتيجية جزائرية عريقة تحاول النأي بالجزائر وبالمغرب العربي عن تواجد قوات أجنبية (فرنسية أساسا) على التراب المغاربي واصفة إياه بالاستعمار المباشر الجديد. وهذا الموقف تأخذه السلطات التونسية مأخذ الجد و ستراعي جارتها الجزائرية عند اندلاع أي شرارة نار في ليبيا سوف تقترب من حدود تونس بقطع النظر عن التهديدات الصادرة عما يسمى حكومة طرابلس (وهي في الواقع إحدى أطراف الفسيفساء الليبية المعقدة) وأعتقد أن تونس في أشد الحاجة اليوم إلى خط دبلوماسي موحد و واضح و دقيق حتى لا نقع من جديد في التخبط الذي عاشته الدبلوماسية التونسية بعد 14 يناير 2011 إزاء الأوضاع في ليبيا وهو تخبط أساء لمصالح تونس و جاليتنا المقيمة في ليبيا بشكل غير مسبوق. تخبط بدأ بتولي حكومتنا المؤقتة تحديد الشرعية في ليبيا عوضا عن الليبيين أنفسهم و انتهى بتسليم المسكين البغدادي المحمودي إلى جلاديه في زمن التقلبات والفوضى وانهيار التوافقات. ونعود للقوى الإقليمية لنؤكد أن تقاسم رسم خريطة ما بعد الأزمات يعود إلى مصر وإيران و المملكة العربية السعودية وتركيا وإلى حد بعيد الجزائر والمملكة المغربية وتبقى تونس بالنسبة لجميع هذه الدول هي الحلقة الأساسية في لعبة التحالفات وربما من مصلحة هؤلاء جميعا التأثير في خيارات تونس ومواقفها لأن الجغرافيا تحكم بأن لا مستقبل لأي عمل عسكري في ليبيا دون استعداد تونس للتعاون مع منفذيه. وهنا لابد من تقوية الجبهة الداخلية التونسية بجرأة كبيرة سريعة حتى تكون بلادنا قلعة موحدة راسخة صامدة تتحطم عليها كل مشاريع الفوضى والعنف وتأملوا معي كلام العميد شوقي الطبيب رئيس الهيئة الوطنية لمقاومة الفساد الذي أعلن أن الفساد (الناتج عن فقدان برامج الإصلاحات الكبرى) هو الخطر الأكبر الذي يهدد بلادنا ويلقي بها إلى التهلكة لا قدر الله. المصدر: الشرق اقطرية 15/2/2016م