حين يعبّر أحد عن موقف سياسي: قومي، يساري، إسلامي، ليبرالي . . إلخ، يقال على الفور باسم المعرفة والتحليل الموضوعي إنه موقف إيديولوجي . والحق أن الوصف دقيق، لكنه لا يعيب صاحب الموقف ولا يقلل من شأن موقفه كما قد يظن، ذلك أن الإيديولوجيا السياسية شكل من الوعي الإنساني والتاريخي مشروع، ومن الخطأ وسوء التقدير اعتبارها دائماً وعياً مغلوطاً . ومشروعيتها متأتاة من كونها تعبر عن مصلحة موضوعية لجماعة اجتماعية (أمة، شعب، طبقة، فئة، نخبة . .) في مرحلة من تاريخها، أما حين يدعي من يدعي أنه سيفكر في مسألة اجتماعية أو سياسية أو وطنية ب “حياد علمي" وتجرّد “كامل" عن الأهواء والمنازع، فإنه لا يفعل أكثر من ممارسة تفكير إيديولوجي صريح باسم العلم، وحيلته حينها لا تنطلي على التحليل النقدي . الإيديولوجيا مشروعة في حدودها المشروعة، ولولا ذلك ما كان نضال المفكرين والعلماء من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان والبيئة وحقوق المرأة مشروعاً في عالم اليوم، ولا كان نضال أسلافهم قبل قرنين ضد الملكيات المطلقة وحكم رجال الدين، ومن أجل التوحيد القومي مشروعاً . كانوا علماء، وفلاسفة، ورجال قانون، ومفكرين اجتماعيين أو اقتصاديين، ولم يكن نضالهم من أجل تلك الأهداف فعلاً معرفياً، بل نضال سياسي إيديولوجي سخّر المعرفة لذلك الغرض . سيظل أمراً إشكالياً، إذن، هذا التجاذب في فكر المرء (الباحث أو المثقف) بين نشدان المعرفة الموضوعية وبين التزام موقف الإيديولوجي في مسألة اجتماعية أو سياسية . والتجاذب هذا ليس تناقضاً بين خيارين أو طريقتين في التفكير، وليس دليل نقص في حاسة المعرفة لديه، وإنما هو ظاهرة “طبيعية" بالنظر إلى حقيقتين متداخلتين: * أولاهما ترتبط بمعضلة موضوعية المعرفة في مجال الإنسانيات، حيث التداخل شديد بين الذات والموضوع، وحيث الموضوع فيها هو عينه الذات، وهذه مشكلة مزمنة في العلوم الإنسانية عيشت منذ ما يزيد على قرن، وقرَّ عند الباحثين أن الموضوعية في معارفها نسبية مهما بلغت من سؤدد ورصانة . * ثانيتهما أن الإيديولوجي ليس قرين نمط من المعرفة فحسب ينظر إليه عادة بوصفه غير موضوعي بل هو، أيضاً، قرين ما هو اجتماعي، ولذلك فهو حامل لمبدأ لا يقل مشروعية عن مبدأ الموضوعية، هو مبدأ المصلحة . التجاذب طبيعي، إذن، بين الموضوعية والمصلحة، أما اختصاره في القول بحاكمية الإيديولوجيا للتفكير الناحي منحى نشدان مبدأ ما، فلا معنى له ولا قيمة إلا داخل نزعة من الفكر علموية تريد بسط سلطان العلم على كل شيء إنساني واجتماعي لا يتحمل تنزيل قوانين المادة والطبيعة عليه، وهو ما كانت النزعة الوضعية قد دشنته منذ القرن التاسع عشر وانتعش التعبير عنه، في أعلى صوره النظرية، في أطروحات ألتوسير حول الإيديولوجيا والعلم بمناسبة قراءته لفكر ماركس . هل نذهب بهذا الكلام، إذن، إلى التسويغ للتفكير الإيديولوجي والتماس المشروعية له؟ ليس هذا قصدنا، إنما أردنا به التشديد على ما نحسبه قواعد لا محيد عن اعتمادها لفهم ظواهر في الاجتماع غير معرفية، أي ظواهر سياسية أو اجتماعية مثل ظاهرة الانحياز إلى فكر إيديولوجية سياسية مثل الفكرة القومية أو الديمقراطية أو فكرة الثورة، على أن بيت القصيد في المسألة أن التزام فكرة ما من هذا النوع درجات بالنسبة إلى فئة المثقفين . ما يجوز للناس “العاديين" من علاقة بقضية مثل الثورة الاجتماعية أو الديمقراطية أو الوحدة العربية، لا يجوز للمثقفين . يكفي الأولين أن يؤمنوا بالقضايا تلك ويخلصوا العمل من أجلها في الحياة العامة، أو في الأطر المؤسسية المكرسة لها من أحزاب ومنظمات وجمعيات . أما المثقفون فلا يجوز لهم أن يكتفوا من تلك العلاقة بهذا الحد العام المتواضع، ينبغي لهم أن يقيموا وعيهم بها على أساس علمي صحيح كي يزيدوا من منسوب الشرعية الاجتماعية لتلك القضايا . وإذا كان الأولون غير مطالبين بتأسيس الالتزام على غير الإيمان بالفكرة، إيماناً عاماً، أو التماس المصلحة العامة فيها، فإن الأخيرين مدعوون إلى أكثر من ذلك بكثير، وإلا ما كان لرأسمالهم المعرفي فائدة في المجتمع والحياة العامة . ليس من مسألة إيديولوجية أشد إيديولوجية من السياسة لأنها وطيدة الصلة بالمصالح الاجتماعية، غير أنه ما كل صلة بالسياسة صلة إيديولوجية على وجه الضرورة . إن كان أمرها كذلك عند من يخوض فيها من موقع الممارسة (السياسي)، فهي لا تكون كذلك في حالة من يتخذها موضوعاً للتفكير العلمي أو في حالة من يقصد إلى تأسيسها على القواعد النظرية . ولقد كان في تاريخ الإنسانية هذان النوعان من العلاقة بالسياسة: علاقة إيديولوجية جسدتها الممارسة والممارسون السياسيون والمفكرون في السياسة تفكيراً إيديولوجياً، وعلاقة نظرية، فكرية، علمية، جسدها المفكرون من فلاسفة السياسة وعلمائها . ولذلك من الخفّة وقصر النظر حسبان ما هو إيديولوجي بعيداً دائماً عن ضفاف الفكر . يصدق الأمر على الفكرة القومية، هذه أيضاً فكرة إيديولوجية شديدة الاتصال بالمصلحة (مصلحة جماعة قومية في الوحدة)، يعيشها السياسيون والممارسون على نحو يطابق حاجات الممارسة، فيطغى على خطابهم المنزع الخطابي والتبشيري والشعبوي، ويعيشها المفكرون على نحو مختلف بما هي فكرة قابلة للتأسيس النظري المنظومي والنظرة العلمية والتاريخية . قد لا يكون الأولون (الممارسون) بعيدين تماماً عن الفكر، لكنهم لا يمارسون فعاليته في بيئة الممارسة . وقد لا يكون الثانون (المفكرون) بعيدين تماماً عن الممارسة، لكنهم يقيمون الفارق الضروري والموضوعي بينهما حتى لا تختلط الحدود . المصدر: الخليج 24/5/2010