عكفت طوال عطلة نهاية الأسبوع، على قراءة صحف دول وادي النيل على شبكة المعلومات. فلأنني مصرية تعرف منذ الصغر أن النيل هو شريان الحياة في مصر، فقد أثار قلقي ما جرى مؤخرا بشأن الاتفاق الإطاري لدول حوض النيل، الذي وقعت عليه حتى الآن خمس دول من أصل تسع، وتنوي المضي في تنفيذه دون مصر. والحقيقة أن تصريحات المسؤولين المصريين بشأن الموضوع، لم تكن مرضية بالنسبة لي، ولم أقف من خلالها على أبعاد الموضوع. ففضلا عن أنها تقلل في كثير من الأحيان من شأن ما جرى، فهي كان لها على مسامعي وقع استعلائي وعصبي لم أستسغه، وفي الوقت ذاته ركزت تلك التصريحات بإصرار على «صحة موقف مصر» أمام القانون الدولي. قلت لنفسي؛ ما الذي يدعو سبعا من دول حوض النيل لأن تتخذ موقفا مناهضا للقانون الدولي؟ فإذا صح ذلك، لا بد أنها مدفوعة بأمر جلل. استفزني أيضا الحديث في الصحف المصرية، عن أن موقف دول حوض النيل من حصة مصر وراءه إسرائيل. ففضلا عما في ذلك الطرح من نبرة استعلائية تنظر لسبع دول وكأنها مجرد لعبة في أيدي قوى خارجية، لا دول ذات سيادة لها مصالح تدافع عنها، فقد وجدت أننا في مصر ليس من حقنا أن نلوم دول إفريقيا على تعاونها مع إسرائيل، التي وقعنا نحن معاهدات صلح معها. ولا يحق لنا أن نعتب عليهم لترحيبهم بالتعاون الإسرائيلي، خصوصا حال تراجع دورنا. لكل ذلك، قررت أن أتحرى الأمر بنفسي، وأقرأ ماذا يقوله إخوتنا في دول حوض النيل عن الموضوع، وأحاول أن ألتزم الموضوعية رغم انحيازي بالضرورة لكوني مصرية. وبداية القصة تبدأ في التسعينات، حين انطلقت مبادرة حوض النيل التي كان هدفها الرئيسي خلق التعاون بين دول الحوض التسع، وهي: مصر والسودان وإثيوبيا ورواندا وبوروندي والكونغو وأوغندا وكينيا وتنزانيا، بينما تظل أرتريا مراقبا، وتشجيع إطار تعاوني للتنمية في ما بينها. ومنذ 1997، راحت دول حوض النيل التسع تتفاوض من أجل التوصل إلى ما صار يعرف بالاتفاق الإطاري، الذي تنشأ بموجب التصديق عليه من برلمانات ست دول (من تسع) مفوضية دائمة لحوض النيل، تكون هي المسؤولة عن «التقسيم العادل» لمياه النيل بين الدول، وتعرض عليها المشروعات التي ترغب في إنشائها أية دولة، للبت في أمر إنشائها. وبعد أن تم التغلب على أغلب المشكلات الفنية والسياسية، دخلت المفاوضات منذ عامين على الأقل في طريق مسدود، حيث وقفت مصر والسودان في ناحية، بينما وقف باقي الدول في الناحية الأخرى، وانتهي الأمر بقرار من الدول السبع بفتح باب التوقيع على الاتفاق الإطاري ولمدة عام. وهو ما بدأ فعلا في 14 مايو الجاري، ووقعت عليه حتى الآن خمس دول، بينما عارضته بشدة مصر والسودان. وجوهر الخلاف بين الجانبين هو أن دولتي المصب، مصر والسودان، رفضتا تبني ناهيك عن التوقيع على أي اتفاق لا يعترف صراحة بحقوقهما التاريخية بخصوص مياه النيل، بموجب اتفاقي 1929 و1959. فالاتفاق الأول أعطى مصر حق الفيتو على أي مشروع تقيمه أية دولة من دول الحوض، من شأن إنشائه التأثير على حصة مصر في مياه النيل، وهي الحصة التي حددها بوضوح اتفاق 1959 ب5 .55 مليار متر مكعب سنويا. لكن دول المنبع تنظر للموضوع بشكل مغاير، فهي ترى أن معاهدة 1929 تم إبرامها في زمن الاستعمار، وبموجبها أعطت بريطانيا معاملة تفضيلية في استخدام مياه النيل لمصر على حساب باقي الدول، فضلا عن أن بريطانيا وقعته نيابة عن عدد من دول الحوض، بينما تظل هناك دول أخرى لم تكن طرفا فيه أصلا. أما اتفاق 1959 فتراه دول المنبع اتفاقا يتعلق بمصر والسودان وحدهما. وتقول تلك الدول إن إصرار مصر على حصتها وحق الفيتو اللذين منحتهما لها «اتفاقية استعمارية»، لا يمكن أن تقبله دول ذات سيادة، خصوصا أنه يحرمها من حقها في التنمية باستخدام النيل الذي يمر في أراضيها. والحقيقة أن الأوضاع قد تغيرت فعلا في الكثير من تلك الدول عما كان عليه الحال في أوائل القرن العشرين. فبعض تلك الدول، مثل كينيا، يعانى المجاعات ويحتاج لتوسيع رقعة الأرض الزراعية لسد حاجات مواطنيه، والبعض الآخر يعانى من نقص في الكهرباء، مثل أوغندا. هذا فضلا عن أن عجلة التنمية في الكثير من تلك الدول، تحتاج لدفع القطاع الزراعي في الأساس. لكن الحقيقة أيضا، هي أن النيل هو مصدر المياه الوحيد بالنسبة لمصر، بينما تملك باقي دول الحوض مصادر أخرى، هذا فضلا عن أن حصة مصر الحالية لا تكفيها، بل إنها تحت خط الفقر المائي المعروف عالميا، لأن نصيب الفرد السنوي من المياه يقل عندنا عن الألف متر مكعب. باختصار؛ القضية فعلا بالغة التعقيد، ولدى كل طرف حججه، لكنني في الحقيقة لم أجد تناقضا بين الموقفين يستحيل معه الاتفاق، فطبيعة الخلاف لا تمنع التوصل لاتفاق يحقق مصالح كل دول الحوض. والواضح أن التنمية في دول حوض النيل، هي في ذاتها من الممكن أن تتم بمشاركة مصرية تعود على كل الأطراف بالنفع. فمصر لديها الخبرات الفنية، وهي في الوقت ذاته تحتاج للكثير من المحاصيل التي تستوردها من الخارج، وعلى رأسها القمح. وتلك التنمية هي التي تخلق مناخا من الثقة، يمكن في وجوده التوافق على مياه النيل. بعبارة أخرى؛ لعل النتيجة الأهم التي خرجت بها من قراءتي للصحف الإفريقية، كانت أن هناك مناخا من الشك وعدم الثقة، هو في ظني أحد أهم عوامل فشل التوصل لحل. المصدر: البيان 26/5/2010