لم يستطع أحد تقديم روشتة جامعة مانعة لما يجب فعله بالضبط من أجل تحقيق الوحدة، التي يؤكد الجميع انها الخيار الأول لكل اطراف المعادلة السودانية، ما خلا بعض الأصوات الإنفصالية التي تعبر عن رأيها ذاك بحرية وفق زاوية رؤيتها. لكن، ومع ذلك، تحمّل تلك الأطراف الشمال في عمومه والحكومة الإتحادية بصورة أخص والمؤتمر الوطني بصورة أكثر خصوصية، مسؤولية دعم خيار الوحدة، وبالتالي فإن التساؤل الذي يلح هو ماذا يمكن أن يقدم المؤتمر الوطني أو الشمال في اشكاله المختلفة لترجيح الخيار بعد مسيرة خمس سنوات من اتفاق السلام الشامل يرى الحزب و(الشمال) أنه قدم فيها الكثير؟ ..... القضية تعتمد في الجهة الأخرى، على الحركة الشعبية والنخبة الجنوبية عموما، فهي البوصلة التي توجه شعب الجنوب نحو أحد الخيارين الوحدة أو الإنفصال، ويبدو ان ما يقدمه أو يسعى عبره الشمال لحمل الجنوبيين على التصويت للوحدة يجب أن يمر أول ما يمر عبر خطوط الحركة وقادة الرأي الجنوبي، لقصر المدة الزمنية المتبقية للإستفتاء، ولوجود درجة من صعوبة التواصل المباشر مع القاعدة الشعبية الجنوبية، ولاعتقاد قوي لدى كثيرين بأن القضية سياسية بالدرجة الاولى ونتائجها مرتبطة باتفاقات الشريكين، ومطلوبات تحقيق الوحدة أو التنازلات المفترضة جاءت في سياقات عدة عبر تصريحات مختلفة لقيادات بالحركة، منها تلك التي أوردها باقان اموم الأمين العام للحركة الشعبية في معرض تعليقه على ما ذكر من تنازل الشمال عن بترول الجنوب مقابل الوحدة، حيث قال: إذا تنازل المؤتمر الوطني عن مشروع وحدته مع البترول، فليترك مشروعه الحضاري ومشروع الدولة الإسلامية، وليعلن إستعداده لقبول الآخر دون انحيازٍ لدينٍ أو عنصرٍ على حساب الآخر، حتى نتمكن من بناء دولة وأمة سودانية متعددة الأعراق والأديان. بجانب ذلك، كانت لأتيم قرنق نائب رئيس المجلس الوطني، القيادي بالحركة، وقفة مع ما وصفه بالتحديات التي تواجه الوحدة، رغم أنه يؤكد دوما على وجود مضار للإنفصال، ولعلها في شكلها العام جزء من التنازلات المفترضة من قبل شمال السودان لترسيخ خيار الوحدة، يقول أتيم إن أبرز هذه التحديات هي عدم انجاز المصالحة الوطنية، بجانب عدم وجود رسالة اعلامية موحدة، وعدم تغيير الخطاب الاعلامي بعد الاتفاقية، وغياب الادارة القومية للعاصمة مما يحقق التعايش في اطار التعددية، والاستخدام السلبي لقبائل التمازج، وعدم تطبيق مقررات الاتفاقية بالسلاسة المطلوبة. ويرى مراقبون أن التنازلات المفترضة - والتي بدأت بالفعل- تتجلى في البعد التقليدي للصراع بين الشمال والجنوب، فإما أن يبذل الوطني ومعه قوى الشمال التي عقدت النية على العمل من اجل الوحدة، المزيد من الثروة أو السلطة ، بتغيير وجه الدولة ، بل وحتى إمكانية تنازل المؤتمر الوطني عن نصيب أكبر من الحكم، ولكن ذلك مشروط برغبة الحركة في الوحدة كخيار استراتيجي وليس كلعبة تكتيكية لمزيد من الكسب، ويرون أن المؤتمر الوطني جاد فعلا في بذل الكثير من أجل تحقيق هدف الوحدة الطوعية الجاذبة، فالدكتور مصطفى عثمان إسماعيل مستشار رئيس الجمهورية عبر أخيرا عن إستعداد الشمال للتنازل عن النفط لصالح الجنوب من أجل الوحدة، وهو استعداد تم ابداؤه غيرما مرة ومن أكثر من مسؤول، ويضيف مراقبون أن الكثير تم تقديمه في الإطار المادي باقامة المشروعات التنموية، وعلى المستوى السياسي كان قرار استيعاب أعداد كبيرة من الجنوبيين بالخدمة العامة، وادخال (40) نائباً من الجنوب بالمجلس الوطني، ومنح الجنوب رئاسة خمس لجان برلمانية، ومنصب نائب رئىس البرلمان للحركة. في سياق ذلك، ينتقد د. ربيع عبد العاطي الاكاديمي والقيادي بالمؤتمر الوطني، ما ذهب إليه باقان أموم بمطالبته الوطني ترك مشروعه الحضاري ومشروع الدولة الإسلامية وغيره، ويقول ل (الرأي العام) إن باقان أموم مخطئ لو كان يفترض انه يمكن منح حق الشعب السوداني لشخص او لجهة ما، ويضيف أن التنازل عن الحقوق لا يؤدي لوحدة عقدية فكرية مادية تقود لسلام مستدام، لأنها ستكون ترضية لفريق وليس للشعب، ويستطرد بأن الوحدة مبنية على قناعات إجتماعية وروابط وتاريخ مشترك وصلات دائمة ومصاهرة وارتباطات عاطفية لا تتم إلا عبر قناعات تستقر في ضمير الأمة لا علاقة لها بالماديات. وبالتالي يؤكد د. ربيع، أن البذل المادي يؤدي لحل المشكلة بصفة مؤقتة لكن تظل جذور الخلاف موجودة، وعليه يقرر، أن الوحدة الحقيقية هي القائمة على العدالة في الحقوق والواجبات والحريات والحقوق الشخصية، وتوزيع السلطة بعدالة أيضا، ويشير إلى أن العقائد لا تقهر فكل جزء من البلاد له الحق في تشريع قوانينه الولائية، بجانب التشريع الإتحادي فيما لا خلاف عليه، ويشدد على أنه لو كانت هنالك عدالة في هذا الجانب فإنها كفيلة بتحقيق الوحدة حتى لو لم تحدث تنازلات لأنها أقوى من الجوانب المادية. ويرى د. ربيع، ان المطالبة بتنازلات في جوانب عقدية ومادية لا تتفق مع حقائق الكون والتاريخ والإرتباطات الإنسانية، وأنه لو وجد من يقر بتنازله عن أموال وأفكار وعقائد فهو كاذب، والوحدة المطلوبة على هذا النسق مستعارة سرعان ما ينكشف وجهها، ويرى أنه حتى ولو حدث انفصال وبقيت الصلات قائمة فإنه لا بد أن تتم الوحدة في يوم من الأيام، ويشير إلى أن ما حدث من تنازلات نفسه سيأتي يوم من الأيام ويصل مرحلة التوازن والعدالة لا على حساب أحد ولا خصما على أحد. وينتقد د. ربيع، ما يدور الآن من حوار حول ترتيبات ما بعد الإستفتاء باعتبار انه سيسفر عن انفصال، ويقول إنه كان جديرا بهؤلاء أن يتحدثوا عن الإستفتاء ونظمه وكيفية إجراؤه وشفافيته حتى لا تزور إرادة الناخب الجنوبي، وأن يتم دون خوف من أحد، ويضيف أنه لو لم يتم الإتفاق على أن الإستفتاء سيكون نزيهاً ووافياً ومرضياً عنه فإنه سيسفر عن نتيجة خاطئة وستترتب عليه أخطاء وازمة جديدة، ولو تم بدون تأثير فإن نتيجته ستكون مقبولة أيا كانت. ما يذكره المراقبون من تنازلات مفترضة من المؤتمر الوطني، قد تكون صعبة التنفيذ او مستحيلة، فقضية أن يتنازل الوطني عن جزء أكبر من الحكم تقع في قائمة ما يصعب تنفيذه، أما أن يتنازل عن المشروع الفكري فهو أمر مستحيل برأي كثيرين،مثل د. صفوت فانوس رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة الخرطوم،الذى يرى أنه ليس من الممكن طلب ما هو ضد طبيعة الأشياء من الوطني، لكنه يضع قائمة طويلة من المطلوبات امام الحزب، ويقول إنه يجب ان يجتهد اولا في تكملة تنفيذ اتفاقية السلام الشامل، ويشير إلى عدم توظيف نسبة الجنوبيين المفترض أن توظفهم مفوضية الخدمة العامة، بجانب تفعيل مفوضية حقوق غير المسلمين ليشعر الجنوبي في الخرطوم بأنه مواطن سوداني، وينبه إلى أهمية حسم قضية أبيي حيث تشتكي لجان ترسيم الحدود من عدم مقدرتها على العمل، بجانب أن مفوضية استفتاء أبيي لو لم تقم حتى موعد الإستفتاء فإن الجنوبيين لن يصوتوا للوحدة، ويضيف أن على الوطني حل قضية الحدود بشكلها الكبير والتي تشهد خلافات، على افتراض أن المؤتمر الوطني لو كان يريد الوحدة فإنه لن يقف امام ترسيم الحدود بين الولايات وإذا كان عكس ذلك فسيتشدد وهو الموقف الحالي. ويرى فانوس، أن هنالك قضايا موجودة في الإتفاق مطلوب العمل فيها بأسرع ما تيسر لزيادة الثقة بين الطرفين، وأن على الوطني أن يستصحب الحديث عن الوحدة بخطوات جادة عبر مشاريع التنمية وزيادة الربط الاقتصادي والإجتماعي والثقافي الموجود، وتشجيع رجال الأعمال للإستمرار بالعمل في الجنوب، وتعميق الشعور لدى الجنوبيين بحقوق المواطنة خاصة وسط الجنوبيين في الشمال، وانحياز الإعلام الحكومي بنحو إيجابي لثقافات وقضايا الجنوب لأنها رمزية مهمة. ويشير د. صفوت إلى وجود تيار بالحركة يرى مصلحة الجنوب في الوحدة، لكنه يعتقد أنه ليس التيار الغالب أو الأقوى، وبالتالي لو قدم المؤتمر الوطني نصيبه من البترول مثلا فإنه اتجاه يقوي من موقف الوحدويين في الحركة، بجانب الربط الإقتصادي وحماية حقوق المواطنين الجنوبيين في الشمال وتأمينهم، ويضيف ان التنازلات أهون على المؤتمر الوطني من مخاطر الإنفصال، وبالتالي يستمر فيما بدأه من تنازلات، والمطلوب منه ليس الحديث فقط وإنما خطوات تزيد الثقة بين الشريكين ولدى قطاع كبير من الجنوبيين. وكيفما كان الأمر، فإن المؤتمر الوطنى والشمال عموماً يبدو أكثر حرصاً على تحقيق هدف الوحدة- بعيداً عمن يفضلون الإنفصال- وفي سبيل ذلك مضت خطوات قد يتبعها الكثير من العمل والتنازلات، ولكن ذلك يبقى رهينا بارداة النخبة القائدة لشعب الجنوب، وما إذا كانت تفضل الوحدة أم الإنفصال.. وما إذا كان حديثها عن تغليب هذا الخيار تكتيكياً ام استراتيجياً؟ وهذا ما ستثبته الفترة المتبقية حتى الموعد الحاسم. نقلا عن صحيفة الراي العام السودانية 18/7/2010م