حتى هذه اللحظة وعلى الرغم من كل الزيارات والمحادثات التي أجراها الموفد الخاص للإدارة الأمريكية الى السودان (سكوت غرايشن) فإن واشنطن لا تبدو واضحة ومتوازنة في علاقتها مع السودان، رغم أنها تدعي أنها صاحبة مصلحة في استقرار الأوضاع في السودان، وأنها (طرف نزيه) كما قال بذلك قبل أيام نائب الرئيس الأمريكي (جو بايدن) لقناة (إي بي سي) الأمريكية. فلو كانت واشنطن – بحق – طرف نزيه – وهذا بالطبع أمر مستحيل تماماً – فإن اصرارها على ابقاء عقوباتها الاحادية الجانب وقرارات الحظر التي استصدرتها من الأممالمتحدة ضد السودان على الشمال السوداني وحده واستثناء الجنوب – بطريقة ضمنية التفافية واضحة – هو أكبر مؤشر على أنها ليست طرفاً نزيهاً ولا يمكنها أن تكون كذلك. الموفد الخاص عادة يحضر الى الخرطوم، ويحادث المسؤولين، وسافر الى جوبا، ودارفور ويقف على الاوضاع ويدرك – لأكثر من مرة – أن الأمور سليمة والأوضاع جيدة، ولكن ما أن يعود الى واشنطن حتى تتبدل المواقف وتنطلق السياسات الجائرة. ومن البديهي هنا أن نشير الى أن السودان لا ينتظر (رحمة أو صدقة ساسية أمريكية)، كما أنه لا يطلب من واشنطن مجاملته، أو محاباته، ولكن من الطبيعي أن يأخذ هذا البلد المثخن بالجراح حقه المشروع في اقامة علاقات متوازنة حتى مع القوى الكبرى. وكما سبق أن قال الدكتور غازي صلاح الدين مستشار الرئيس السوداني قبل أشهر في احدى لقاءاته بغرايشن فإن السودان عاش من قبل بلا أمريكا ولن يضيره أن يظل كذلك. غير أن واشنطن لا تدعه وشأنه فهي لا تكتفي بإيذائه وعرقلة مسيرته النهضوية فحسب ولكنها تبادر (بتخريب) كل بناء تنموي وسياسي جيد يقوم به. أنظر الآن الى عملية السلام الشاملة الجارية في السودان ستجد أن واشنطن رغم كونها أحد أهم الوسطاء والمسهلين الاّ أنها منحازة الى جانب الحركة الشعبية وليس أدل على ذلك – كما رأينا وشهدنا – من اللقاء الذي تم بين (بايدن) نائب الرئيس الأمريكي وزعيم الحركة الشعبية الفريق (كير). لقد كان (بايدن) يخاطب الفريق كير ويحادثه باعتباره زعيماً للحركة الشعبية ورئيساً لحكومة الجنوب مع أن الصفة الدستورية الأكبر من هاتين الصفتين مجتمعتين هي صفة الفريق كير كنائب أول للرئيس السوداني أي الرجل رقم (2) في الهرم السيادي السوداني ومع ذلك فإن بايدن أعطى زعيم الحركة (شيكاً على بياض) بمستقبل دولة الجنوب السوداني المرتقبة متجاهلاً أن كير وقتها كان في ذات الوقت نائب رئيس السودان الموحد، وليس السودان الذي تسعى واشنطن لتجزئته، كما يمكن أن نفهم وندرك ما هو أسوأ من ذلك حين طلبت الحركة الشعبية (باعتذار مريب) تعليق مشاورات قضايا ما بعد الاستفتاء الجارية منذ أكثر من اسبوع اذ من المؤكد – بحسب مصادر دبلوماسية في واشنطن – أن الاعتذار والتأجيل وراؤه واشنطن. ان الولاياتالمتحدة ما في ذلك شك تعادي السودان لأسباب مجهولة وصلت الى درجة تأييد مذكرة ملاحقة الرئيس البشير صراحة عبر الناطق باسم خارجيتها مع أنها لا تعترف بالمحكمة الجنائية اصلاً، ومع أنها تبحث عن قضايا مرتبطة بالرئيس السوداني وأي مساس به سوف يدخل المنطقة بأسرها في أتون محرقة هائلة. واشنطن في الواقع تائهة وسيئة النية وستظل في موقفها الغريب هذا الى أن تنهار سياساتها الخارجية وتتحظم على صخرة غبائها السياسي المفرط.