ما من شك أن الحركة الشعبية، بعد المشاورات التي جرت بينها وبين شريكها الوطني سواء في الخرطوم أو جوبا أو القاهرة تحللت قليلاً من قيود وأغلال التوجهات الانفصالية الحادة التي كانت تحملها إلى عهد قريب. وفي الغالب، فان الحركة الشعبية. سواء لنقص في الخبرة السياسية – أو الغبن بالنسبة لبعض قادتها، أو الركون لتوجيهات تأتي من الخارج وهي معسولة ومترعة بالوعود البراقة، كانت تمضي وتجر وراءها – دون حق – الإقليم الجنوبي نحو انفصال لم تتوفر له أسباباً قوية مقنعة ويعلم الجميع أن قادة الحركة الشعبية جميعهم حتى الآن لم يقدموا (مرافعة) تستوقف أي مراقب وتحترمها عقول المحللين تبرر توجهاتهم الانفصالية، وفي الغالب أيضاً أن المخاطر التي يحملها الانفصال بدأت تتضح شيئاً فشيئاً في أذهان وعقول قادة الحركة ومواطني الجنوب، فالأمر ليس ببساطة الحصول على دولة علمانية ذات ثقافة مضادة للشمال، والأمر ليس في سك عملة خاصة أو رقعة علم يرفرف في سارية جوبا. هنالك أمور إستراتيجية بعيدة المدى لم تترسخ بعد، وان بدأ بعضها يترسخ الآن فقط في أذهان القادة التواقين لدولة يريدون أن يذكرهم بها التاريخ ويرد الفضل إليهم في إنشائها. الأمر اعقد من كل ذلك بكثير، فدول الجوار الإفريقي بها مشاكل وأزمات ومن الصعب أن تتقبل دولة جديدة مرشحه هي نفسها – بحكم المعطيات الماثلة – للانشطار مرة أخرى لأن القضية أن كانت قضية توافق اثني أو ثقافي فالمشتركات في الجنوب أقل بكثير من أن تتيح له أن يتماسك ويظل دولة واحدة. هذه أمور بدأت تسطع وتومض في أذهان قادة الحركة ولعل أكثر ما يشير إلى ذلك – حتى ولو لم يصرح به بعهم صراحة – أن أصواتاً بدأت ترتفع من جانبهم عن مقايضة وحدة السودان بالتشريعات الإسلامية المطبقة في الشمال. بمعني أن يدع الشمال ثقافته العربية الإسلامية لصالح دولة علمانية غير محددة التوجه ولا واضحة الهوية لتترك ذلك لتفاعلات المستقبل. ومن المؤكد أن هذا الطرح والذي سارع الوطني برفضه هو مؤشر على (تراجع فكرة الانفصال) على الأقل في الوقت الراهن. اذ ليس المهم قبول الوطني أو رفضه للطرح لأن قضية الثقافة العربية أو الطرح الإسلامي للسودان ليست قضية سياسية تتم باتخاذ قرار من السلطة الحاكمة، وإنما هي قضية ترتبط بالجذور التي تشكل منها المجتمع السوداني، وترسخت في واجدان المجتمع لعقود وسنوات ولهذا – وبصرف النظر عن التوجهات الدينية أو الفكرية – لكافة قطاعات المجتمع، فان الثقافة العربية الإسلامية باتت أسلوب حياة، وثقافة يومية وواقع معاش يصعب تغييره وإذا ما أراد حزب ما أو قوة سياسية تغييره فان هذا ربما يكون متاحاً لها عبر المنافسة الانتخابية، لهذا فان المقايضة هنا لا تبدو منسقه مع طبائع الأمور فالتطابق في الثقافات والتوجهات ليس شرطاً لوحدة أي بلد، وإنما التنوع هو الذي يقوي من الوحدة كما ليس هذا التنوع أو حتى الاختلاف مبرراً للانفصال. إذن تبدو الحركة الشعبية – بموقفها هذا – عائدة إلى خطيرة الوحدة وان ناورت بمثل هذه المناورات التي تتضمن رسالة واضحة المعالم.