الصراع الذي يحتدم هذه الأيام بين معسكري الوحدة والانفصال يحتاج الى معايير واضحة ومرجعيات متفق عليها لحسم هذا الجدل الدائر حول ايجابيات وسلبيات وتداعيات الوحدة والانفصال. أولاً: لا بد من اعتماد معايير موضوعية وثابتة ، بعيداً عن الانفعالات او المعايير الذاتية، كمعيار العدالة والحقوق لجميع السودانيين . ثانياً : حتى لا تكون «العدالة» و»الحقوق» عرضة لسلبيات المعايير الذاتية لابد من اعتماد مرجعيات أصولية ثابتة فى تحديد ماهية العدالة و التى لا تتغير مع الزمان ولا المكان كالمرجعيات الدينية (بالنسبة لاصحاب الكتب السماوية) او المرجعيات العرفية والفلسفية( لغير المتدينين) والتي اثبتت التجارب التاريخية جدواها فى تحقيق المصلحة العامة . ثالثاً : الاتفاقات والمعاهدات المرحلية التي تهدف لتحقيق مصالح ذاتية او مرحلية (كاتفاقية نيفاشا) يجب التعامل معها في حدود نسبيتها مقارنة بالمرجعيات الثابتة . تحديد هذه المعايير الموضوعية لا يمنع الناس من الاختلاف في التفاسير والتآويل لان الاختلاف سنة الحياة، ولكن وجود ضوابط موضوعية ، والاحتكام بها لحسم الخلافات أمر ضروري لانه يؤدى الى نتائج موضوعية . من أهم الضوابط التي يجب ان تتوافر فى هذه الظروف التى يمر بها السودان هو أولاً توفير حريات كافية لجميع الاطراف( الوحدويين والانفصاليين) و منابر آمنة لاجراء الحوار في مناخ آمن ليس فيه تهديد من طرف لطرف آخر. ثانياً، ان تتوافر ضمانات قانونية من السلطات السياسية فى الشمال و الجنوب لحماية المعارضين لمواقفهما الرسمية المعلنة. ثالثاً ان تكون الاهداف العليا من الوحدة و الانفصال محددة ومعرّفة حتى يستطيع المواطنون ان يحكموا ايهما يحقق عدالة وحقوقاً أكثر له او لجميع السودانيين. إذن اي مشروع وحدوي او انفصالي اسلامي او علماني لا يحقق الهدف المعلن او المنشود من المفترض ان لا يجد مكانة فى الاستفتاء . هذا يتطلب شيئين: أولاً توعية المواطنين عموما وخاصة في الجنوب بالأهداف الحقيقية من وراء الوحدة او الانفصال، لانهم هم الذين سيحسمون هذا الامر بأصواتهم. ثانياً ان تتقدم التيارات الوحدوية والانفصالية في المعسكرين الاسلامي والعلماني بتفاصيل أوفى عن مشروعاتها السياسية في شكل دستور مفصل يتضمن ميثاقاً مفصلاً عن حقوق جميع السودانيين المسلمين وغير المسلمين في حالة الوحدة او الانفصال . ولأن تبعات الاستفتاء لا تقتصر على الجنوب فقط بل سيشمل السودان ككل فمن حق المواطنين في شمال السودان ان يكونوا على علم بما ينتظرهم من تداعيات في حالة الوحدة او الانفصال . صحيح ان الشريكين سعيا في الماضي، من خلال الاتفاقية، لابقاء السلطة السياسية تحت سيطرتهما الكاملة حتى انتهاء الفترة الانتقالية ،بل ما زالا يسعيان لتمديد هذه السيطرة الى ما بعد الاستفتاء سواء في حالة الوحدة او الانفصال. إلاَّ أن الاحداث القادمة والتحديات الكبيرة الملقاة على عاتق الشريكين من الداخل والخارج قد لا تحقق هذا الاستمرار. فى كل الاحوال فانه من حق السودانيين الذين لا ينتمون الى أحزاب الشريكين والمتضررين من هيمنتهما على مقاليد السلطة في البلاد، ان يسعوا لضمان حقوقهم السياسية والقانونية فى حالة الوحدة او الانفصال، وقبل الاستفتاء من الشريكين( الاسلامي والعلماني) ، حتى لا تتكرر مأساة الانتخابات الماضية( فلا هي أتت بالديمقراطية ولا بأي اصلاح سياسي فيما بعد) . الاشكاليات التي ستواجه الشريكين في حالة الانفصال، وهو الخيار الذي أصبح أكثر ترشيحاً رغم عدم وجود احصائيات او استطلاعات رأي علمية تؤكد او تنفى ذلك، ربما المقصود ان الانفصاليين هم الاعلى صوتا في الساحة .على اية حال اذا صدقت هذه التوقعات بأن الاستفتاء سيؤدي حتما الى الانفصال، في هذه الحالة يجب ان تسعى القوى السياسية المعارضة ومن المحايدين و المستقلين الى عمل مشترك يؤدي الى حمل الشريكين الى اعلان دستورهما الانتقالي قبل الاستفتاء و الذى سيتم على أساسهما حكم كل من الشمال الاسلامي والجنوب العلماني . كيف سيتم توسيع المشاركة السياسية في الشمال وفي الجنوب ؟ وما هي الفترة الانتقالية لقيام انتخابات ديمقراطية( حقيقية هذه المرة ) وما هي الضمانات هذه المرة لحماية النزاهة والشفافية والعدالة؟ . واظن أن الأحزاب المعارضة في الشمال والجنوب لن يسمحوا لانفسهم بأن يلدغوا من الجحر مرتين ! هذا الامر يتطلب ان تتحرك القوى الاصلاحية في المعسكرين الاسلامي والعلماني لتضافر جهودهما من أجل احداث الاصلاح السياسي المطلوب فى الوقت المناسب. اذا فاتت الفرصة منها من قبل في الانتخابات الماضية و ذلك نتيجة لعدم التنسيق بوقت كافٍ ومناسب ، فيجب ألا تتكرر الاخطاء مرة اخرى بنفس الصورة وذلك بالانتظار الى آخر لحظة ثم يبدأ العمل وتكون النتائج مؤسفة كما حدث في الانتخابات الماضية. أما اذا جاءت نتيجة الاستفتاء بالوحدة فان الحاجة الى توفير ضمانات سياسية وقانونية لاحداث الاصلاحات السياسية المطلوبة ستظل قائمة. طبعا اشكالية الوحدة الجاذبة انها مازالت تطرح بعموميات غير محددة المعالم ولا ندري حتى الآن هل الوحدة المعنية هي النظامين الاسلامي / العلماني في دولة واحدة ؟ ام وحدة فيدرالية ام كونفيدرالية ؟ لان الوحدويين انفسهم سواء كانوا اسلاميين او علمانيين منقمسين حول هذه الاشكال الوحدوية . فهل ستشمل استمارة الاستفتاء على كل هذه الخيارات الوحدوية؟ حتى يعلم الجميع أين يقف أغلبية الجنوبيين من هذه الخيارات ؟ كذلك مبدأ الانفصال مازال متأرجحاً بين الانفصال التام والانفصال المرحلي، هل سيطرح الخياران في استمارة الاستفتاء حتى يعلم الجميع اين يقف اغلبية الجنوبيين من الخيارين ؟. واذا اختار الجنوبيون الانفصال المرحلي فاية وحدة يريدونها في المستقبل؟ وما هي الضمانات بان الوحدة المستقبلية ستكون افضل من سابقتها ؟ كان من الاوفق ان يكون عنوان الاستفتاء هو الوحدة او الانفصال من المركز ؟ ونعني (السلطة المركزية للدولة) وليس الوحدة مع او الانفصال من الشمال . ذلك ان المشكلة في السودان لم تكن في يوم من الايام بين أهل الشمال وأهل الجنوب لا دينياً ولا ثقافياً ولا عرقياً. بل ان المشكلة في السودان نشأت منذ العهود الاستعمارية نتيجة للطريقة القسرية التي تمت بها ضم الاجزاء الطرفية الى مركز الدولة في الخرطوم. المطلوب دائما هو اصلاح العلاقة بين المركز والاطراف بما فيها الطرف الجنوبى، ذلك ان اهل الشمال هم ايضا متضررون من عدم عدالة المركز سواء كان في العهود الاستعمارية او الوطنية . اذن المشكلة هي سياسية بالدرجة الاولى، كل المحاولات التي حاولت بعد ذلك ان تجعل من الدين او العرق اساس المشكلة باءت كلها بالفشل. لهذا نقول ان الموقعين على الاتفاقية الشاملة للسلام لم يوفقوا في توصيف المشكلة توصيفاً صحيحاً. لو لم يضعوا الشمال كله (شرقاً وغرباً ) مقابلاً للجنوب كله لاستفادت المناطق الاخرى في الشمال، والمتضررة الآن من علاقتها بالمركز، بمبدأ حق تقرير المصير . هذه ليست دعوة لمزيد من التفكيك لدولة السودان ولكن لان اصل الداء واحد سواء كان في الجنوب او غيره من المناطق الطرفية المتضررة من علاقتها بالمركز والذى يتمثل في الاتحاد القسري في العهود الاستعمارية والظلم السياسي في العهود الوطنية . وربما لو جاء الاستفتاء شاملاً لكل اهل السودان لكنا تقدمنا الى المستقبل، هذه المرة ، بخطوات أكثر ثقة مما نحن فيه الآن . اذن الاعتماد فقط على مرجعية الاتفاقية الشاملة لإحداث الاصلاحات الجذرية المطلوبة في السودان ككل لم يثبت جدواه حتى الآن، حكما بما حدث فى الانتخابات الماضية و ما هو حادث الآن بالنسبة للاستفتاء. ذلك ان الاتفاقية اصلا جاءت ملبية لطموحات الشريكين في السلطة والثروة اكثر مما هدفت لاحداث الاصلاحات السياسية الجذرية والتي من المفترض ان تؤدي الى المصلحة العامة . و هذا ما يفسر سيطرة التيارات الاقصائية في الحزبين (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية) بعد الاتفاقية و التى مازالت ممسكة بزمام الامورحتى بعد الانتخابات . صحيح ان الاتفاقية الشاملة حققت اهدافاً مرحلية كوقف القتال بين الجنوب والمركز( وليس الشمال مرة اخرى، لان ليس كل اهل الشمال كانوا راضين عن كل الحروب التى يشنها المركز ضد الجنوب في كل العهودالحزبية المختلفة بما فيها عهد الانقاذ ). وبالتالي تحقق شيء من السلام النسبي. لكن خطورة هذا السلام انه مرتبط باهداف مرحلية وذاتية (مصلحة الشريكين في اقتسام السلطة والثروة) وهو قابل للانهيار اذا تعارضت المصالح بين الشريكين في الايام المقبلة . ولهذا فانه من مصلحة الجميع بمن فيهم الشريكان ان يرتفع سقف الاتفاقية ليشمل مصلحة كل السودانيين و حقوقهم المشروعة فى السلطة والثروة والعدالة . وهذا مرة اخرى يضع العبء على التيارات الاصلاحية في المعسكرين والتي تعمل للمصلحة العليا مستندة في ذلك الى مرجعيات أصولية وثابتة من الدين او الفلسفة او الاعراف السمحة والتي لا تتغير بتغير الزمان او المكان والتي اثبتت التجارب الانسانية انها باقية على الارض مهما حاولت قوى ظلم ان تقلع جذورها. على قوى الخير و الاصلاح ان تجمع قواها وتنسق فيما بينها، رغم ضيق الوقت المتبقي ، للتأثير على مسار الاحداث و توجيهها نحو الاصلاح السياسي الشامل و التى تحقق المصلحة العامة . ووضع تصور عملي لمحاصرة السلبيات التي يمكن ان تنشأ في حالة الوحدة او الانفصال . نقلاً عن صحيفة الرأي العام 13/10/2010م