ليس السودانيون فحسب هم من يتطلعون بترقب إلى يوم التاسع من كانون الثاني (يناير) 2011، بل واشنطن تعتبر هذا التاريخ علامة فارقة فيما يتعلق بمصالحها بين ملفات الشرق الأوسط المتداخلة. حتى إن البعض يتندر بأن تاريخ الحادي عشر يهم الولاياتالمتحدة بشكل أو بآخر في إشارة إلى أحداث سبتمبر، التي أفادت منها أيما إفادة. ويتوقع المراقبون أن يكون الظهور الأمريكي هذه المرة في صورة راعي السلام، الذي يسعى إلى إتمام الاستفتاء دونما أي منغصات حتى يتحقق الانفصال من خلال الاستفتاء بشكل يقبله المجتمع الدولي. ومن جانبها تعلن واشنطن أن عليها دوراً يجب أن تلعبه على مختلف الأصعدة لمنع تجدد المعارك بين قوات الشمال والجنوب، ولا سيما في ظل تصريحات حكومة البشير المحذرة من الولايات، التي سيجرها قرار الانفصال على السودان بشقيها. وتسارعت وتيرة التصريحات الأمريكية في الآونة الأخيرة داعية إلى ضمان تسهيل إجراء الانتخابات وقبول الطرفين بنتيجته. ويرى المراقبون أن تلك التصريحات تشي بأن انفصال الجنوب يأتي على رأس اهتمامات الإدارة الأمريكية. وتتضاءل بجانب ملف الانفصال ملفات أخرى مثل نزاهة الانتخابات الرئاسية، أو الضغط لتسليم الرئيس السوداني للمحكمة الجنائية الدولية. وأكد الرئيس الأمريكي أوباما أن إدارته نشطة في مساعي التأكد من إجراء الاستفتاء، الذي ربما يؤدي إلى الانفصال. أما جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي فقد التقى أخيرا سلفاكير رئيس جنوب السودان واعداً إياه بتقدم مساعدات تقنية ومالية لعملية الاستفتاء، وهو ما أكدته تصريحات هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية. أما حكومة جنوب السودان فلا تخفي تقديرها لجهود الولاياتالمتحدة، متمثلة في الدعم الذي يحصل عليه الجنوبيون من الحكومة مشفوعاً بمباركة الحزبين الديمقراطي والجمهوري. ومن مظاهر هذا الدعم سماح واشنطن بوجود بعثة تمثل حكومة الجنوب وتقوم بمهام السفارات الأخرى نفسها الكائنة في واشنطن، وذلك بصورة مستقلة تماماً عن سفارة دولة السودان. ويشير موقع البعثة على الإنترنت إلى أنها تقوم بعملها وفقاً للمادة 46 من الدستور المؤقت لجنوب السودان، الذي ينص على أن حكومة الجنوب ستحرص على قيام علاقات دبلوماسية مع الحكومات الأجنبية، فضلاً عن المنظمات الدولية غير الحكومية. وتهدف إلى الاستفادة في مجالي التجارة والاستثمار وغيرهما من مجالات التعاون. ولم يكن وجود البعثة على الأراضي الأمريكية مجرد إجراء رمزي، إنما كان تجسيداً لدعم واشنطن الكامل لانفصال الجنوب. وذكرت مصادر أمريكية أن إدارة الرئيس أوباما سارت على نهج إدارة بوش في تقديم دعم مالي كبير لجنوب السودان بما يضمن سير سيناريو الانفصال كما هو مخطط له مسبقاً. وأشارت صحيفة "واشنطن تايمز" إلى أن الدعم الأمريكي للجنوب يصل إلى مليار دولار سنوياً يتم توجيهه بشكل أساسي إلى مجالات البنية التحتية وتدريب رجال الأمن لتكوين جيش مستعد للدفاع عن المنطقة متى استلزم الأمر. ولم ينف رئيس حكومة السودان في واشنطن طبيعة هذا الدعم المالي، إذ أكد أن حكومة أوباما تضع نصب عينيها هدف التأكيد على انفصال جنوب السودان في 2011. وأضاف أن الانفصال يعني إعمار الجنوب، أما إذا أتت نتيجة الاستفتاء بغير ذلك، فهذا يعني حدوث غش على حد تعبيره ما قد يؤدي إلى حرب ودمار. ومن الإدارة الأمريكية يبرر الجنرال سكوت جرايشن المبعوث الخاص للسودان الوجود الأمريكي في قضية السودان من خلال الدعم بمختلف أنواعه بقوله: "إن الاستراتيجية الأمريكية تجاه السودان ترمي إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسة هي: إنقاذ الأرواح وضمان سلام دائم، وتطبيق اتفاق سلام طويل الأمد، ومنع السودان من أن يصبح ملاذا آمنا للإرهابيين". وأكد - في شهادة أدلى بها أخيرا أمام لجنة إفريقيا الفرعية المنبثقة عن لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأمريكي - أن الإخفاق في تحقيق هذه الأهداف يمكن أن يسفر عن مزيد من المعاناة، ومزيد من عدم الاستقرار الإقليمي أو عن إيجاد ملاذات آمنة جديدة للإرهابيين الدوليين على حد قوله. وأضاف أن الولاياتالمتحدة لديها التزام واضح ومصلحة واضحة لقيادة الجهود الدولية من أجل تحقيق السلام في السودان. ولا يقف سقف المصالح الأمريكية عند هذا الحد، إذ إن هناك قوى أخرى مؤثرة في صنع القرار الأمريكي بما يحقق مصالحها. أولاها شركات الطاقة والتعدين التي ترمي للاستفادة من الثروات غير المستغلة الراقدة في باطن أرض الجنوب الذي يوجد فيها 90 في المائة من إنتاج واحتياطي النفط السوداني، حيث يبلغ إنتاج الجنوب حاليا 460 ألف برميل يومياً. وثمة قوى لا يجب إهمالها وهي مصالح الكنائس والمنظمات التنصيرية الأمريكية في جنوب السودان. ويجاهر زعماء تيار المحافظين الجدد المتطرف بأطماعهم التنصيرية في السودان. وعلى سبيل المثال فقد خرج القس فرانكلين جراهام المعروف بعدائه للإسلام بمقال أكد فيه أنه يخطط لإعادة بناء مئات الكنائس التي دمرت في جنوب السودان. وزعم أن هناك حرباً مشتعلة ما سماه "كنيسة المسيح في إفريقيا"! ويعتبر ملف التعاون العسكري المسكوت عنه الأهم في الدور الأمريكي في سودان ما بعد الانفصال. وتشير التقارير إلى أن وزارة الخارجية الأمريكية بادرت عقب التوصل إلى اتفاق السلام الدائم بمنح شركة دين كورب DynCorp عقداً قيمته المبدئية 40 مليون دولار للقيام بتأهيل متمردي جنوب السودان وتحويلهم إلى قوات عسكرية محترفة. ولم يكن اختيار تلك الشركة بالأمر المفاجئ, فقد تم منحها عقداً لتقديم دعم لوجيستي لقوات منظمة الوحدة الإفريقية لحفظ السلام في 2003 وقبلها بعامين وكلت بمهمة تسهيل إجراء مفاوضات دبلوماسية بين متمردي الجنوب وحكومة الخرطوم. ومن جانبه يؤكد آل ريجني نائب رئيس الشركة أن أعمال شر كته سلمية ولا تتضمن أنشطة عسكرية، إلا أن مصادر توقعت وجود دوافع خفية وراء تلك الصفقة، وأن هدفه الحقيقي هو تعزيز القدرات العسكرية لجيش الجنوب لإضعاف موقف الخرطوم. ويعرب خبير أمريكي عن خشيته أن تلعب الشركة دوراً أكبر في المنطقة. وبالطبع سيكون هذا الدور غير رسمي على غرار ما حدث في العراق. ويعزز تلك المخاوف وجود عدد من المسؤولين الأمريكيين السابقين في مجلس إدارة الشركة. وهو ما يعطي انطباعاً بأن "دين كورب" تلعب أكبر من مجرد دور شركة، لا سيما أن ما يقارب من 90 في المائة من عقود الشركة طرفها الآخر الحكومة الأمريكية. وسبق الاستعانة بها في عدد من مناطق العالم المضطربة مثل العراق وأفغانستان وليبيريا وكولومبيا. ولم تخل الساحة السودانية من وجود شركة بلاك ووتر التي اشتهرت بضلوعها في تعذيب العراقيين. وتشير تقارير أمريكية إلى أن الشركة سعت بعد تغيير اسمها إلى إكس إي Xe إلى الحصول على تعاقدات حكومية لتدريب جيش جنوب السودان، وتوفير الحماية الأمنية لمسؤولي حكومة الجنوب بوساطة من ديك تشيني نائب الرئيس السابق. وعرضت الشركة عدم الحصول على مقابل لعقد قيمته 100 مليون دولار مقابل حق الانتفاع ب 50 في المائة من مناجم حديد وذهب في الجنوب. وليس أدل على الدور المشبوه لشركات الأمن من إشراف كريستوفر تايلور نائب رئيس شركة بلاك ووتر على مفاوضات مباشرة مع رئيس حكومة السودان. وكان برفقة تايلور كل من هاورد فيليب وإيدجار برنس، وهما من كبار حركات اليمين المسيحي المتطرف. نقلاً عن صحيفة التيار 18/10/2010م