مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية رغم أن الأممالمتحدة أتاحت لدول العالم على مختلف أوضاعها، غنية وفقيرة.. كبيرة وصغيرة، آلية دائمة للاجتماع والتشاور وبحث القضايا ذات الاهتمام المشترك سياسية واقتصادية وأمنية وعسكرية..إلخ من خلال أجهزتها الرئيسية (الجمعية العامة ومجلس الأمن والمنظمات والوكالات المتخصصة المرتبطة بها)، فإن أداءها وعلى مدار ستة عقود ونصف العقد، أي منذ تاريخ إنشائها عام 1945، لجهة تحقيق التعاون والتقارب بين الدول والشعوب والعمل على حفظ السلم والأمن الدوليين بمنع الحروب وتسوية المنازعات لم يكن على المستوى المأمول، بسبب خضوعها للتجاذبات الدولية، أو سيطرة بعض القوى الكبرى على مقدراتها. فعلى مستوى حفظ السلم والأمن الدوليين، لم تنجح المنظمة في منع العديد من الأزمات والحروب الإقليمية والدولية، بسبب الدور المعوق الذي مارسته القوى الكبرى، نظرًا لتباين المواقف والمصالح، وإن نجحت في تسوية ووضع حد لبعض هذه الأزمات والحروب حين تلاقت مصالح ومواقف هذه القوى.. أما على مستوى التعاون بين الدول، فلربما تكون قد نجحت في تحقيق حد أدنى من التعاون الجماعي في قضايا الاقتصاد والتجارة والصحة والثقافة.. وغيرها، إلا أن عددًا كبيرًا من دول العالم وأغلبها من دول العالم الثالث مازالت تعاني مشاكل الفقر والديون والأمية والبطالة ونقص الرعاية الصحية مع تفشي الأوبئة والأمراض. هذا الضعف في الأداء صاحبته عدة ظواهر انطوت على سلبيات جعلت المنظمة تعاني ليس فقط أزمة فاعلية، ولكن أيضًا أزمة وجود، ومن هذه الظواهر ما يلي: 1 - التباين في طبيعة دور وفاعلية أجهزة المنظمة الرئيسية ووجود خلل واضح في سلطات وقدرات هذه الأجهزة، فمجلس الأمن الذي يتكون من 15عضوًا فقط - منهم خمسة دائمون يتمتعون بحق الفيتو - يتمتع بسلطات أكبر وقراراته تتمتع بصفة الإلزام، بل بالإمكان استخدام القوة في تنفيذها إذا جاءت في نطاق الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة، الأمر الذي حال دون اتخاذ قرارات حاسمة في العديد من القضايا والأزمات من أبرزها قضية الصراع العربي الإسرائيلي؛ حيث استخدمت الولاياتالمتحدة الفيتو لإحباط أكثر من 70 مشروع قرار يدين إسرائيل، وذلك مقارنة بالجمعية العامة التي تمثل جميع دول العالم (192 دولة)، والتي لا تتمتع قراراتها بالإلزام، وتعتبر مجرد توصيات، إلا إذا اتخذت في نطاق ما يسمى "الاتحاد من أجل السلم". ويرتبط ذلك الخلل بالدور المؤثر الذي تلعبه الدول الكبرى وفي مقدمتها الولاياتالمتحدة في تمويل المنظمة الدولية؛ حيث تسهم واشنطن على سبيل المثال ب22% من إجمالي ميزانيتها، فيما تسهم اليابان ب 17%، والنسبة نفسها تقريبًا بالنسبة لألمانيا، وترى واشنطن خطأً أن هذه المساهمة الكبيرة في تمويل المنظمة تعطيها الحق في أن يكون لها دور أكبر في توجيه سياساتها ومواقفها. وقد ظهر هذا التوجه بوضوح، بعد انتهاء الحرب الباردة، حيث أصبحت المنظمة - ومجلس الأمن تحديدًا - خاضعة لسيطرة الولاياتالمتحدة التي استغلت تلك الأوضاع في توفير الغطاء اللازم لحروبها وتدخلاتها في أفغانستان والعراق، أو إيجاد دور لها (أي المنظمة) في حالة فشلها في التعامل مع بعض الأزمات، وهو الوضع الذي جعل البعض يتندر على المنظمة ويصفها بأنها أصبحت إدارة ملحقة بالخارجية الأمريكية. 2 - ضعف الهيكل الإداري للمنظمة، ممثلاً في الأمانة العامة، وتفشي الفساد الإداري بين جنباتها في ظل غياب الشفافية والمساءلة والرقابة على أعمالها، في وقت تتولى مسؤولية إدارة ميزانية تقرب من 18 مليار دولار سنويا، والنموذج الأوضح على ذلك برنامج "النفط مقابل الغذاء" الخاص بالعراق، وما ارتبط به من مخالفات.. وأيضًا طريقة اختيار وتوزيع المناصب والوظائف المهمة داخل الأممالمتحدة (خاصة الأمناء المساعدين)، التي لا تستند لمعيار الكفاءة وتبدو خالية من أي توازن بين مناطق العالم في ظل سيطرة الأمريكان والغربيين عمومًا على أغلبها. 3 - المشاكل التي تواجه عمليات المنظمة في الخارج، ولاسيما عمليات حفظ السلام، بسبب صعوبات توفير التمويل اللازم في ظل تقاعس القوى الكبرى أحيانًا عن تمويلها، واستغلال بعض القوى لها كغطاء لإضفاء شرعية على وجودها العسكري في بعض الدول، (كوضع أمريكا بالنسبة للعراق وأفغانستان)، كما أن هناك مشكلة خاصة بممارسات هذه القوات في بعض الدول التي عملت بها من قبيل ما أثير عن تورط قوات حفظ السلام في الكونغو الديمقراطية في جرائم إبادة واغتصاب جماعي.. إلخ. إذا كان هذا حال المنظمة منذ إنشائها .. فليس من الغريب القول إن عملية إصلاحها ليست عملية حديثة بل تعود إلى بداياتها، حيث شكلت لجان في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات قدمت دراسات وأبحاثا عديدة في هذا الشأن.. بيد أنه مع سيادة نظام دولي جديد (مع انهيار الاتحاد السوفيتي) ظهرت الحاجة إلى نمط جديد من العلاقات الدولية بعد أن تجاوز العالم صراعاته ومشاكله التقليدية ليواجه مشاكل الإرهاب والفقر والديون، ومن ثم باتت الحاجة إلى تنظيم دولي أكثر فاعلية أمرًا ملحٌّا، ووصل الأمر بالبعض إلى الادعاء بأن الأممالمتحدة تجاوزت عمرها الافتراضي، وأنه لابد من إنشاء منظمة جديدة أكثر قدرة على التعامل مع تحديات القرن الحادي والعشرين. ولأن فكرة إقامة منظمة بديلة للأمم المتحدة تبدو غير عملية، فقد كثرت المطالب بإدخال إصلاحات شاملة على المنظمة الدولية.. حتى تحافظ على الاستقرار الدولي، وتأتي في مقدمة هذه المطالب: - إعادة الاعتبار إلى دور الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي اختطفته الولاياتالمتحدةالأمريكية، والعمل على تفعيل دورها من منطلق أن جميع دول العالم ممثلة فيها، وذلك من أجل أن يكون لها دور مؤثر في القرار الدولي ولإيجاد نمط أكثر ديمقراطية في العلاقات الدولية. - توسيع عضوية مجلس الأمن ليشمل بعض الدول الصاعدة (كألمانيا واليابان والبرازيل والهند)، والمنظمات الإقليمية (كمنظمة المؤتمر الإسلامي وجامعة الدول العربية ومنظمة الوحدة الافريقية ومجموعة دول عدم الانحياز)، وتقليص استخدام حق الفيتو، وترشيد أداء المجلس، وتحقيق قدر أكبر من الشفافية في عملياته، بحيث لا يكون ناديًا خاصٌّا ذا عمليات سرية. - تطوير عمل بعض أجهزة المنظمة، خاصة محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، التي يجب إبعادها عن سيطرة القوى الكبرى لضمان عدم استغلالها كأداة لممارسة ضغوط على غيرها من الدول، في الوقت الذي تحرص فيه على إبقاء نفسها بعيدًا عن ولاية هذه المحاكم. - تطوير الهيكل الإداري للأمانة العامة من خلال فرض عناصر الرقابة والمحاسبة على عملياتها المالية، ووضع معايير موضوعية المناصب المهمة على أساس معياري الكفاءة والتوازن الجغرافي وليس محاباة دول معينة بالمناصب المهمة. - إعادة تنظيم عمليات المنظمة في الخارج، خاصة عمليات حفظ السلام، وإخضاع عناصرها من قيادات وجنود للمساءلة القانونية في حالة المخالفة .. لتجاوز السلبيات التي حدثت في بعض الدول مثل الكونغو الديمقراطية وغيرها. - تحقيق الاستقلال المالي للمنظمة لتجنب سيطرة القوى الكبرى عليها، وقد اقترح "د. بطرس غالي" الأمين العام الأسبق للمنظمة فرض دولار على كل تذكرة من تذاكر الطيران في العالم بهدف دعم الميزانية. - تفعيل خطط مواجهة القضايا الدولية الأكثر أهمية، مثل قضية مكافحة الإرهاب والحاجة لوضع ضوابط لهذه العملية من خلال التوصل لاتفاقية دولية لمكافحة الإرهاب.. وأيضًا التصدي لقضايا الفقر والتنمية والصحة والتعليم. ولأن المضي في إصلاح الأممالمتحدة مرهون بوجود إرادة دولية جماعية تؤكد وتدعم عملية الإصلاح، فإن توجهات ومصالح القوى الكبرى تبقى هي الأخرى حاسمة في إمكان أن تؤتي جهود الإصلاح ثمارها.. فإذا كانت دول العالم الثالث تبحث عن نظام دولي أكثر ديمقراطية يراعي مصالحها، ويكون لها فيه صوت مسموع، وإذا كانت روسيا والصين ومعهما بعض الدول الأوروبية تبحث عن نظام دولي أكثر توازنًا بعيدًا عن هيمنة القطب الأوحد الأمريكي، فإن موقف الولاياتالمتحدة من عملية الإصلاح يبدو مهما لإمكان الحكم على إمكانية نجاحها من عدمه. واللافت للنظر هنا، هو التناقض في موقف واشنطن فرغم أنها ادعت أن المنظمة لم تعد مناسبة لعالم القرن الحادي والعشرين، وطالبت بتجاوزها وبإقامة تنظيم دولي جديد على أنقاضها، فإنها لم تحاول أن تبدو بعيدة عن الإجماع الدولي، فأيدت عملية الإصلاح، وأصدرت خلال قمة الألفية التي عقدت في سبتمبر عام 2000 بيانًا حددت فيه رؤيتها لهذه العملية؛ إذ طالبت بإصلاح الإدارة والميزانية بتعزيز مبادئ المساءلة والنزاهة، وأعلنت تقبلها فكرة توسيع مجلس الأمن وفق معايير مؤهلة (كالتزام الدولة بالديمقراطية وحقوق الإنسان والحجم الاقتصادي، وعدد السكان، والقدرة العسكرية، والمساهمة المالية في المنظمة وسجلها في مكافحة الإرهاب) كما أيدت فكرة الأمين العام السابق "كوفي عنان" لإنشاء لجنة لبناء السلام والتوصل لاتفاقية دولية لمكافحة الإرهاب، وأعلنت دعمها لأهداف التنمية، ومساندتها لصندوق الأممالمتحدة للديمقراطية، فضلاً عن دعمها مبادرة إحلال المجلس الدولي لحقوق الإنسان محل لجنة حقوق الإنسان. ما سبق يعني وجود أمرين أحدهما إيجابي والآخر سلبي.. وبالنسبة للأمر الإيجابي فهو وجود رغبة دولية جماعية في الإصلاح، أما الأمر السلبي فهو أن المساندة والدعم بالبيانات ووجود الرغبة وحدها لا تكفي، فالجهود التي بذلت بهذا الشأن مازالت تراوح مكانها بدليل أن إعلان قمة الألفية الذي تعهد بخفض نسبة الفقر إلى النصف خلال عشر سنوات، وخفض مخاطر الحروب والإرهاب وتعزيز حقوق الإنسان، أثبتت عمليات المراجعة والمتابعة التي جرت عامي 2005 و2010، أنه لم يلتزم به سوى عدد محدود من الدول.. وأيضًا من الأدلة على تعثر تطبيق الإصلاح أن المطالبة به مازالت مستمرة حتى الآن، وكانت أحد البنود الرئيسية في جدول أعمال الدورة ال 65 الحالية لاجتماعات الجمعية العامة التي بدأت في سبتمبر الماضي. ولعله ليس من قبيل المبالغة القول، إن عملية إصلاح الأممالمتحدة لا تروق بالكامل لبعض القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولاياتالمتحدة، وتكاد أهدافها ومساعيها الإصلاحية تنحصر في إصلاح الأمانة العامة والهيكل الإداري للمنظمة للقضاء على ما تعتبره فسادًا، ومن دون أن يمتد ذلك إلى هيكل اتخاذ القرار داخلها، فواشنطن لا تؤيد تفعيل دور الجمعية العامة في ظل رغبتها في استمرار الدور المؤثر لمجلس الأمن باعتباره مركز صنع القرار في المنظمة الدولية، وهي وإن كانت تؤيد توسيع المجلس، إلا أنها تضع شروطًا لذلك - كما سبقت الإشارة - هذا غير رفضها إلغاء حق الفيتو. فهي في النهاية لا تريد أممًا متحدة قوية تناوئها في إدارة دفة السياسة العالمية؛ بل تريد أممًا متحدة ضعيفة يسهل السيطرة عليها وتوجيهها وفقًا لمصالحها ومصالح حلفائها.. أي أنها تسعى لاستمرار النهج الدكتاتوري نفسه المتبع على مدار ما يزيد على ستة عقود في توجيه المنظمة حتى باتت أشبه بمؤسسة خاضعة للإدارة الأمريكية خاصة خلال العقدين الأخيرين. إن الأممالمتحدة تواجه تحديات كبيرة، بعد أن فقدت العديد من أدوارها (ولاسيما دورها في حفظ السلم والأمن الدوليين)، وبعد أن أصبحت أداة لتنفيذ السياسة الأمريكية، ومن ثم فإن الحقبة القادمة ستضعها أمام أحد مصيرين: فإما أن تتحول إلى منظمة أمريكية، وإما أن تنشأ تعددية قطبية تستطيع إعادة الحيادية إليها. وإذا كانت هناك نيات حقيقية لإصلاح المنظمة، فيجب أن تؤدي لتعزيز الديمقراطية وحكم القانون في العلاقات الدولية ومساعدة الأممالمتحدة على القيام بدورها كمنتدى للعمل الجماعي، لمواجهة التهديدات والتحديات المختلفة، ولتكون قادرة على الحفاظ على السلام العالمي، وهو ما سيمثل مصلحة مشتركة للبشرية جمعاء.