أثارت الأقوال التي نُسبت للسيد وزير المالية والاقتصاد الوطني، لغطاً وجدالاً واستغراباً لدى الرأي العام المحلي، واجتزئت مقولة له نُشرت في تلافيف الحوار الذي نشرته صحيفة الشرق الأوسط اللندنية الأسبوع الماضي وأعادت نشره الصحف المحلية عندنا، وجعلت من هذه الجملة الصغيرة، منصة للهجوم على الوزير وزاد البعض عليها وتزيَّد كأن ما قيل جريرة لا تُغتفر وجريمة لن تمر، وبين ليلة وضحاها بات الحديث عن الكسرة والعواسة، هو القضية الوحيدة التي تستوجب الهجمة وهذه العاصفة، التي تتناوش وزارة المالية ووزيرها مع ما يريه الآن من ملامح لميزانية جديدة ونهج مختلف في إصلاح الاقتصاد، ستكون له ثماره في المستقبل القريب. لقد أشفق الكثيرون على الأخ علي محمود، عندما عُيِّن وزيراً للمالية، بسسب أن هذه المرحلة التي جاء فيها من أخطر وأصعب وأعقد المنعطفات التي يمر بها السودان، فوطن يقف على حافة التاريخ وفي مرحلة مهمة أمامه خيار الانفصال أو الوحدة، واقتصاده معلق على أرجوحة الموارد البترولية، المعلقة نفسها على جبال الجنوب، بينما موارده الأخرى من غير البترول تكفيه وتُغنيه وترفعه إلى الثريا إذا أحسنت الدولة إدارة هذه الموارد ووظفت كل جهدها ووجَّهته للزراعة وتطوير الثروة الحيوانية والاهتمام بقطاعات الطاقة وشبكات الطرق والبنى التحتية والتنمية الاجتماعية وعملت على ترقية الإنسان. فضلاً عن كون الوزير ينفذ في ميزانية جاء ووجدها قد قطعت شوطاً بعيداً يصعب معالجة آثارها وأعطابها. مع الأنواء التي التفَّت حول تصريحات الوزير وضاعت الحقيقة، قصدتُ الوزير لمعرفتي به من سنوات طويلة، وكان لزاماً عليَّ البحث عن الحقيقة الغائبة في حديثه، خاصة أنني أعرف حصافة الرجل واتزانه في ضبط لسانه وكفاءته وقدراته كاقتصادي صاحب رؤية وسياسي يعرف كيف ومَن يخاطب وكيف يتعامل مع ظرف مثل الذي نعيشه. ولم يخيِّب السيد الوزير ظني، أعطاني القصة الكاملة لتصريحاته التي يتناولها الناس، ولم يبن لي أنه نطق بما لا يليق من روايته، الحكاية كلها أن الوزير وهو يهم بمغادرة العاصمة الأمريكيةواشنطن بعد مشاركته في اجتماعات البنك الدولي التي حقق فيها نجاحاً غير مسبوق في قضية إعفاء ديون السودان التي وصلت إلى 35مليار دولار، لبّى دعوة عشاء سريعة بمنزل أحد أعضاء البعثة الدبلوماسية السودانية هناك، وبعد صلاة المغرب في منزل المستشار الإعلامي بالسفارة وقبل القيام من مكان الصلاة طلب منه بعض الحضور من السودانيين على طريقة اقتناص فرصة وجود مسؤول حكومي معهم، أن يحدِّثهم عن الوضع في السودان، وتناول الوزير في حديث غير رسمي مجمل الوضع السياسي ودارفور والجنوب والوحدة والانفصال والاقتصاد وكان يجيب عن أسئلة الحضور القليل العدد من السودانيين الذين سألوه عن كل شيء حتى إيقاف استيراد العربات المتجاوزة للموديل، والقمح وارتفاع الدولار، وفي حديثه عن استيراد القمح أبان للحضور وهم في مكان الصلاة ما يستورده السودان من القمح الآن والسلع الأخرى، وقال إن التغيرات التي طرأت على حياة السودانيين من سلوك غذائي جديد وتحولات في الثقافة الغذائية وظروف الحياة المختلفة، جعلت الاستهلاك من القمح والدقيق يرتفع من 300 ألف طن عام 2000م، إلى أكثر من مليوني طن في 2010م، وأن كلفة استيراد القمح تتجاوز 750 مليون دولار سنوياً، وقال: لدينا بدائل في حال واجهتنا أي صعوبات في الحصول على العملة الصعبة في حال تناقص إيراداتنا بعد الانفصال وهناك تدابير وتحوطات ستُتخذ، لتعويض ما يمكن أن نفقده من عائدات النفط في حال توقف تصديره بعد انفصال الجنوب، وورد هنا قوله إننا مجتمع قادر على توفير بدائله ولدينا الذرة بديلاً للقمح، غذاؤنا الشعبي موجود في أي وقت، ويجب أن لا نتركه مقابل نمط الحياة المعتمد فقط على القمح والدقيق. وعقب الفراغ من هذا الحديث وأثناء تناول وجبة العشاء اقترب من الوزير مراسل الشرق الأوسط في العاصمة الأمريكية، وتبادل معه حديثاً، لم يعرف الوزير أنه للنشر ولم يرد فيه أي ذكر للعواسة والكسرة على الإطلاق، ولم يقل له الصحفي إنه يُجري معه بهذا الحديث حواراً صحفياً، إنما كانت أسئلة عفوية حول الجنوب والانفصال واستعداد الشمال لما بعدها ومشروع الموازنة القادمة، وبعدها غادر الوزير المكان وعاد للبلاد ولم يمكث يوماً واحداً حيث كان في زيارة لدولة الإمارات العربية المتحدة لتسليم رسالة من السيد رئيس الجمهورية لرئيس دولة الإمارات وعاد لساعات ثم غادر للكويت لحضور مؤتمر هناك، ولم يكن يدري أن العاصفة وإعصارها يتكونان في سماء الخرطوم التي تزدرد الرغيف وتتجنب كسرة الذرة المُرة. هذه هي كل القصة التي لا تستحق كل هذه الضجة، مقارنة بما تقدمه وزارة المالية الآن من إصلاح حقيقي لحال الاقتصاد الوطني، وتبدو رواية الشرق الأوسط التي أُعدت بعناية ماهرة وخادعة لإظهارها كأنها حوار صحفي له ومرتب بكل تفاصيله، وهي رواية كما يظهر من الحقائق التي قالها الوزير، لا تستحق الامتعاض إلا في حال صدقت نسبتها للوزير، فالحديث منزوع عن سياقاته الصحيحة وفيه نوع من التدليس الصحفي الذي عُرف عن (الشرق الأوسط) في تعاملها مع أخبار وأحداث السودان. ما يعنينا، أن حديث الوزير إن كان كما ذكرت الشرق الأوسط وادعت فهو بالفعل يثير القلق، لكن التثبت من الرواية كان يجب أن يكون هو الخطوة الأولى قبل الخوض فيها، لكن يعاب على وزارة المالية ومكتب الوزير أنه لم يأبه لها ولم يسارع بالرد والتوضيح وتبيان الحقيقة وهو ما جعل التأويلات والتفسيرات تأخذ مذاهب شتى، وتصوب مدفعية ثقيلة على وزير المالية، بالرغم من أن المرويات الخبرية من هذا النوع تتطلخ بمقاصد رواتها من معارضي السلطة الحالية وقد جعلوا منها سانحة لجلد الحكومة، لكن ما بال من هم في قلب السلطة يحاولون تلوين حقيقة ما قاله الوزير وتحميله ما لم يرتكب؟!.. نقلا عن صحيفة الانتباهة 24/10/2010م