جسدت زيارة السيناتور جون كيري وتصريحاته فى جوبا و الخرطوم عمق ما يمكن وصفه بالارتباك الأمريكي حيال عملية استفتاء الجنوب السوداني ، بل يمكن وصف موقف واشنطن اجاملاً حيال وحدة أو تقسيم السودان بالغامض حتى بالنسبة لواشنطن نفسها. فقد قال كيري فى جوبا إن على الخرطوم – ويعني الحزب الوطني – إجراء الاستفتاء فى موعده و إلاّ واجهت عواقب سيئة ،و فى الخرطوم قال كيري ان إدارته تتطلع الى علاقات جيدة مع الخرطوم باذلاً حوافز و وعوداً للخرطوم، أردفها بعدم ممانعة واشنطن فى تأجيل الاستفتاء اذا دعت لذلك أسباباً تقنية أو فنية بحتة ! و فى ذات السياق ،وفى خضم زيارة كيري صدر قانون تحت اسم (مشروع قانون السلام والاستقرار فى السودان للعام 2010) أبرز ملامحه تخوفات واشنطن من أعمال عنف وصراعات و إبادة جماعية قد يشهدها الجنوب السوداني عقب الانفصال . وكان لافتاً ان مشروع القانون حرص على رسم صورة سوداء قاتمة لمستقبل الجنوب! ومن الواضح ان هذه الإشارات تحفل بمتناقضات شتي، فمن جهة تصر واشنطن على قيام الاستفتاء فى موعده ، وهو أمر أكدته الخرطوم مراراً و تكراراً و كانت ذروة هذه التأكيدات فى لقاء نيويورك فى الرابع و العشرين من سبتمبر 2010 فى حضور الرئيس الأمريكي أوباما و أمين عام الأممالمتحدة بان كي مكون ،حيث ألقي نائب الرئيس السوداني عثمان محمد طه خطاب السودان متضمناً هذه التأكيدات القاطعة ، وهو أمر معروف و مثبت بحيث لا يحتاج مطلقاً لإعادة الحديث عنه بهذه السيولة السياسة المتدفقة. فى ذات الوقت ، فان واشنطن لا تمانع من تأجيل الاستفتاء لأسباب فنية تتصل بجداول الاستفتاء و نزاهته وشفافيته بما يجعل نتيجته مقبولة ! و هنا يتجلي سوء النية لدي واشنطن بجلاء لأن من المعروف ان تأجيل الاستفتاء - اذا حدث - يستحيل ان يتم لمجرد رغبة أو مزاج من جانب الحزب الوطني ، فهو يتم لأسباب فنية دون شك ولوجود مسوغات تتصل بشفافيته و سلاسته و عدم وجود مشاكل و نزاعات تعقب ظهور النتيجة .و من الجانب الآخر ترسم واشنطن صورة قاتمة لمآلات وضع الدولة الجنوبية المرتقبة و كأن واشنطن غير راغبة فى انفصال الجنوب حالياً ! أو أنها تخشي من عواقب الانفصال و سوء ادارة الحركة الشعبية للإقليم ! ما من شك ان واشنطن حائرة و مرتبكة ولئن قال قائل أنها تفعل ذلك ربما للتمويه والخداع ، فهذا غير وارد لأن القضية أعقد وأخطر من هذا التسطيح المخل ، فالوقت ضيق و إجراءات الاستفتاء لا بد أن تأتي فى مناخ مواتي و جهود واشنطن حيال إستمالة قلب الخرطوم لم تنجح و يصعب ان تنجح لأن الخرطوم أصبحت طرفاً طالباً و ليس مطلوباً ، و واشنطن تسعي لحصول على شئ لا تعرفه و تخشاه و بالمجان وقد أدركت الخرطوم ذلك و فهمت الأمر بدقة متناهية . فيا تري ، ماذا عسي ان تفعل واشنطن والوقت يداهم الجميع ؟